بنفسج

زيتونة جرار تروي اللحظات الأخيرة في حياة أمها الشهيدة وفاء جرار

الأربعاء 21 اغسطس

"حلفتك بالله تطلبيني لعندك يما".. لم يكن الأمر هينًا عليها أن تمشي في جنازة والدتها وفاء جرار، التي لطالما كانت تشعر وكأنها ابنتها وليست أمها، كان بينها وبين خط الانهيار حين فارقت الحياة خيطًا رفيعًا، ولكنها لأجل وفاء جرار بطلتها وملهمتها الأولى أرادت أن تشبهها في ثباتها وصبرها ورضاها، وقفت في الصف الأول تهتف في جنازتها بصوت يملؤه القهر، ولكنه ثابتٌ ثبات وفاء الأم الكبيرة، راضيًا محتسبًا مسلمًا الأمر كله لله...

 تستذكرها وهي تحارب ألمها المبرح "أنا ما بدي أطيب بدي ارتاح".. فأي كرامة تملكها وفاء ليستجيب الله لها ولتنام نومة أبدية هانئة بعدما نقشت اسم من نور في قلب كل من عرفها عن قرب أو حتى سمع باسمها.نحكي مع شبيهتها زيتونة جرار الابنة البارة والوجه الفلسطيني الأصيل، لتخبرنا عن الأيام الأخيرة في حياة السيدة وفاء جرار "أم حذيفة"، عن الاعتقال والإصابة وبتر القدمين، عن الكواليس الخفية التي لم تخبر بها أحد.

يوم الاعتقال.. " اليّ بشوفنا بقول مجانين"

ابنة الشهيدة وفاء جرار تتحدث عن اللحظات الأخيرة في حياة جرار.jpg

يعرفها الجميع باسم "مؤسسة رابطة أمهات الشهداء والأسرى".. يحفظون وجهها جيدًا، فهي التي كانت في الصفوف الأولى في بيوت عزاء الشهداء، مساندة لأهالي الأسرى، تحمل همهم وقضيتهم، قاسمتهم الألم والأمل على الدوام، فأحبوا سعيها لأجلهم، ولسانها الذي يقطر عسلًا، ودعواتها الرقيقة التي تلامس شغاف القلب.

كبرت وفاء رفقة أولادها الأربعة، فقد تزوجت في عمر ال١٦ عامًا، قضت طفولتها وشبابها في تربيتهم وحدها، نعم الأم والأب، مارست كل الأدوار ببراعة، تحملت مسؤولية كبيرة عندما كان زوجها معتقلًا في سجون الاحتلال لستة عشر عامًا، تقول زيتونة: "كانت والدتي تحاول لأجل سعادتنا بشتى الطرق، فعلت كل ما ينبغي لأجل أن ترانا في أعلى المراتب، لم تفرط بقلب واحد فينا، يقهرها حزننا، في طفولتي أذكر جيدًا حين كنت أعلن تمردي على ركوب باص الروضة، فأبكي وأتعلق برقبتها، فتقول للسائق اتركها أنا سأجلبها بنفسي، وتصحبني برفقتها نحو الروضة وتبقى معي حتى أتوقف عن البكاء ثم تغادر، هذه هي وفاء جرار الحنونة التي لطالما كان حضنها ملجأ آمن لي".

اعتادت زيتونة على اقتحامات الجيش الإسرائيلي لمنزلهم منذ طفولتها، فوالدها أسير قضى 16 عامًا من حياته في سجون الاحتلال، تقول لبنفسج عن يوم اعتقال والدتها: "كان يوم اعتقالها غريبًا جدًا، حين تم اقتحام مخيم جنين لم تنشغل أمي بمتابعة الأخبار والتحديثات المتتالية، بل على غير عادتها دخلت المطبخ أعدت طعام الإفطار وصحن الفواكه وجلسنا نتسامر ونضحك، حتى أنني استغربت ما يجري للمرة الأولى في حياتنا". "والله يا ماما يلي بشوفنا بقول مجانين مالنا اليوم".

حين طلبت أمي الشهادة لأول مرة!

اللحظات الأخيرة في حياة وفاء جرار.jpg

 ضحكت السيدة وفاء وجلست تحدثهم عن الرضا بالأقدار وحمدالله في السراء والضراء، وذكرت الشهيد ناصر سنان نموذجًا قائلة: "شايفين الواحد كيف ممكن يستشهد فجأة، أنا صراحة بطلت أخاف عليكم ولا على حالي.. إن شاء الله ربنا ينولني الشهادة في سبيله".

فغرت زيتونة فاهها وضيقت عيناها وغمرها إحساس أن شيء ما يلوح بالأفق فهذه المرة الأولى التي تصرح لهم والدتها عن رغبتها بالشهادة بشكل علني وصريح. لم يطل اندهاشها طويلًا فالجلبة التي حدثت خارج المنزل شتتها، وإذ بالجيش الإسرائيلي يقتحم المنزل ويطلب وفاء جرار بالاسم، تضيف: "لم نكن نتوقع أن يتم اعتقال والدتي أبدًا، ظنناهم سيأخذون البيت كثكنة عسكرية بسبب ارتفاعه، لكن سرعان ما نطق الجندي باسمها ليجبرها على السير معه نحو المجهول".

لم يكن رد فعل والدتها طبيعًا بالنسبة لها، فها هي تبتسم حتى أشارت لها زيتونة من بعيد: "شوي شوي ماما مش هيك".. خافت عليها من استفزازهم من ابتسامتها تلك، تعودت زيتونة على والدتها التي ترتعش ويهوي قلبها مع كل اقتحام خوفًا على والدها من تنكيل الجيش، لكن لأول مرة تكون بهذه الابتسامة وهذا الثبات.

تكمل: "كان الجندي بستفز ماما بمسك المزهرية بكسرها وبقلها هي بتحبيها ويرميها، انتو مبسوطين احنا رج نخرب حياتكم وندمر كل شي بتحبوه". ركضت زيتونة نحو حضن والدتها ولم تأبه لجنود الاحتلال الذين عاثوا خرابًا بالمنزل، احتضنتها رغمًا عنهم، "ما فيك تاخدها".. تشبثت بها جيدًا كطفل لم يبلغ الرابعة من العمر بعد، تمسكت بها بقوة والجندي مقابلها يشدها نحوه لاقتلاعها من بين أحضان الابنة، خافت زيتونة عليها فتركتها لأجل سلامتها.

تبين: "ركبت عنوة الجيب العسكري ثم أخرجت رأسها منه وضحكت لي وأشارت لي بيديها إشارة الوادع، وحينها نشبت نار في قلبي لا تسكن، انتابني شعور بأن أمي لن تعود للبيت، كانت كالفراشة تحلق نحو مصيرها المحتوم".

رؤية مثل فلق الصُبح 

زيتونة جرار تتحدث عن حياة الشهيدة وفاء جرار.jpg

غمامة سوداء لاحت أمام عينيها وهي ترى والدتها المبتسمة تغادر عنوة مع الجيش، فكيف يسرقون وفاء الروح من قلب البيت، هل سيعذبونها وينكلون بها وهي التي لا تفرط بدمعة تسقط من عين روحها، كانت مكنونات النفس لدى زيتونة قاسية، وبمجرد تخيل أن يمس وفاءها ضر تكاد تفقد عقلها من هول التخيل، وفجأة تتوارد الأخبار "الجيب اللي فيه أم العسل انفجر".

كانت الأخبار متضاربة في البداية هل وفاء جرار داخل الجيب العسكري أم لا؟ ساعات طوال وزيتونة قلبها يشتعل، ونبضها يتسارع، والتوتر بلغ منها ما بلغ، حتى تأكدوا أن وفاء بداخله.  تضيف زيتونة: "أنا شفت إمي بالحلم بأول ليلة اعتقال الها جيت أبوس رجليها بس ما لقيت رجلين لأبوسهم، صحيت حكيت لأهل البيت إمي تصاوبت".

كان اعتقالها في الواحد والعشرين من مايو، ومن بعدها انقلبت حياتها رأسًا على عقب، قضت أشهر حياتها الأخيرة بين أروقة المشافي تتألم من وجع لا يطيب، تعرضت للإهمال الطبي من قبل السلطات الإسرائيلية مما أدى لبتر قدميها، فكان ضربة في مقتل لزيتونة وأشقائها ولكل أحبة وفاء.

"رجليك سبقوك للجنة" 

رجليك سبقوك للجنة.jpg

كيف بلغكم خبر بتر قدمين الوالدة؟ تجيب زيتونة وحشرجة البكاء حاضرة: "كنا مجهزين طاقم كامل لأمي فور الإفراج عنها من مشفى العفولة ونقلها لمشفى ابن سينا من أطباء نفسيين، وأطباء عظام وباطنة، لمتابعة حالتها الجسدية والنفسية، سألتنا في البداية ماذا حدث لقدمي تؤلمني جدًا، قلنا لها يا ماما قدميك سبقوكي نحو الجنة".

ثواني من الصمت ثم ردت بكل هدوء وبرضا تام بقضاء الله وقدره "الحمد لله أنا راضية.. الله يثبتني.. الحمدلله أنا مش أحسن من أهل غزة". كان لديها أمل أن تشفى والدتها من أوجاعها المبرحة التي أصابتها وإضافة إلى قدميها التي بُترت، كان ملفها الطبي الذي تسلمته العائلة مليئًا بالأمراض إلتهاب حاد وسوائل على الرئة، ومنع من تناول المضادات الحيوية ليبرأ جرحها المفتوح، إذ تسبب الإهمال الطبي إلى وصول الإلتهاب بقدميها إلى الركبة مما تسبب بالبتر، تعمد الاحتلال تركها تواجه الموت من مسافة صفر فلا علاج ولا رعاية، عشرة أيام وهي مصابة معتقلة، تتألم بصمت حتى استلمها أولادها.

"زيتونة كندرتي بدها تقع من رجليا زبطيلي اياها".. لو أنها صفعت زيتونة صفعات عديدة كان أهون عليها أن تطلب منها أمها طلب كهذه، كانت ستسقط أمامها لتبكي بكاء لا نهاية له، لكنها ابنة وفاء جرار فلا يليق بها الانهيار أمام حبيبتها فقالت: ""ماما حبيبتي مش احنا اتفقنا أنه رجليكي سبقوكي على الجنة". فردت: "اه اه صح نسيت.. الحمدلله". تردف زيتونة: "أخبرنا الطبيب أنها ستظل تشعر بقدميها وبألم فيهما لمدة لا تقل عن ستة أشهر، قابلته أمي برضا وبحمدلله".

ما المواقف التي لا تنسيها أثناء إصابة الوالدة؟ تجيب لبنفسج بصوت أهلكه الألم: "يوم أن قرر الاحتلال أن يفرج عن أمي استغربنا للغاية سرعان ما اكتشفنا أن ملفها الطبي سييء جدًا وحالتها تتدهور، قيل لنا لن تعيش مطولًا ربما ساعات وتنتهي حياتها، خفت جدًا ودعوت أصعب دعاء يمكن أن تدعوه الابنة على أمها، دعوت لها بالشهادة غدًا بمجرد وصولها لنا، ولا  أن تستشهد لدى الاحتلال، فأنا لا أطيق حسرة سرقة جثمانها، والركض وراء سلطات الاحتلال لاستعادتها، كنت أريد أمي بجانبي حتى وهي ميتة".

لم تنس زيتونة وجه والدتها وهي تسألها عن من يدير شؤون البيت في غيابها من طبخ وغسيل وتنظيف، كانت تحمل الهم حتى وهي تتألم، في إحدى الليالي لم يغمض لها جفن  فسألتها زيتونة: "مالك يا فوفو سهرانة.. مش مهم هلأ نرتاح لقدام بترتاحي". فردت: "أنا ما بدي أطيب.. بدي ارتاح بس اتركيني ارتاح". وتلك كانت المرة الأولى لزيتونة التي تبكي فيها أمام مرأى والدتها، أنهار الدموع التي حبستها انجرفت للوجه، كانت تود أن تصرخ بعلو الصوت وتقول: آآه يا إمي آآه. 

رحلت وهي تنتظر حفيدتها 

وفاء جرار.jpg
 

كانت السيدة وفاء تتنظر حفيدتها إيلياء، وطوال فترة مكوثها بالمشفى تسأل عن "ألموشة" التي ستزين حياة عائلتهم، حتى قدر الله أن تتعرض لغيبوبة، كان وقع خبر تدهور حالتها الصحية صعبًا على زيتونة، تدخل لها بين الحين والآخر لتحكي معها وتحثها على الاستيقاظ "قومي يا وفاء هي اجتك ألموشة"..

وكأن تلك الجملة كانت دافعًا لوفاء للنهوض والتمسك بحبل الحياة من جديد، رمشت بعينها فدب الفرح في قلب زيتونة فوضعت أمام عينيها صورة لمولود وقالت: "شوفي ألموشة هيها يلا شدي حيلك وقومي". كانت تلك حيلة صغيرة من زيتونة لتدفع والدتها على الأمل لترى حفيدتيها الصغيرة، لم تكن الحفيدة قد بزغ نورها للحياة بعد، رحلت وفاء جرار قبل أن تحتضن حفيدتها الصغيرة التي تغير اسمها لتسمي ب وفاء تخليدًا لذكرى جدتها المناضلة التي أفنت حياتها في سبيل الله والوطن.

رحل جسد وفاء جرار لبارئه ولكن روحها ما زالت تحلق في البيت وبين الأحبة، في بيوت الشهداء والأسرى التي عكفت أن تكون بينهم، أسست رابطة أمهات الأسرى والشهداء، لأجل الطبطبة على قلوبهن، لم يخلو بيت عزاء من وجه وفاء، ولا وقفة تضامنية من صوتها الذي كان يصدح بالميادين، أحبت العلم وأحبها، درست الماجستير ونالت الامتياز في أول فصل فيه، وكانت تريد أن تمنحها الدنيا متسعًا لأن تكمل الدكتوراه ولكن الله أراد أن يسترد أمانته في أرضه.