بنفسج

قصتي شيماء نبهان

الخميس 29 اغسطس

أحدثكم قليلًا عن محمد هو رجل محبوب، خلوق، طيب، مثقف جدًا، كريم يحب مساعدة المحتاجين، وفيه صفة الإيثار، وأنيق كثيرًا ويحب الترتيب، ضحكوك مرح، وكان يحب عمله جدًا في مونتاج الفيديوهات ويستمتع به مع الدقة و الإتقان ليخرج للمشاهد بأحلى مشهد وأرتب صورة.

"ماما ياريت نستشهد عشان نروح عند بابا ونضل مع بعض في الجنة".. كان حديث صغاري أسماء وكريم وسارة بمثابة طعنة في منتصف القلب، خانتني دموعي التي لطالما حاولت إخفاءها عنهم، منذ استشهاد والدهم وأنا أتحمل مسؤوليتهم بالكامل وأعاني ألم الفراق، كان فقد زوجي محمد قاسيًا جدًا عليّ، عانيتُ منذ غيابه كثيرًا، وما زالتُ أعاني من العيش في خيمة، نتصارع مع الحشرات الغريبة والحرارة العالية، وقلة المياه، نعيش هُنا حياة ليست بالحياة بعدما كنا في العز والدلال وفي بيوتنا ولمة الأحباب من الزوج والأهل والأخوة والأخوات.

لأعرف عن نفسي أنا شيماء ابنة الشهيد الأستاذ جمال نبهان وزوجة الشهيد الصحفي محمد الجمل وأخت الشهداء الدكتور أحمد نبهان والمهندس عبدالله نبهان، جميعهم استشهدوا في قصف  بيتي بعد أربعة أشهر من  نزوح أهلي من خانيونس إلى بيتي في رفح.

في بداية الحرب نزحتُ إلى خانيونس عند أهلي وبعد شهرين طلبوا منا الإخلاء، فنزحنا إلى بيت أقاربنا في منطقة أخرى من خانيونس، وبعد شهر طلبوا منا الإخلاء مرة أخرى. طلبتُ من عائلتي أن تنتقل معي إلى رفح  لأنها كانت من المناطق التي تُعد آمنة، ولكن الحقيقة أن لا مكانًا آمنًا في غزة،فالقصف والتدمير والخراب نال كل المناطق بل كل شبرٍ في غزة. وفي 25 أبريل/نيسان باغتنا صاروخ إسرائيلي غادر ونحن نائمون، تفاجأنا جدًا بقصف البيت الذي راح ضحيته جزء من عائلتي وزوجي.

يوم قصف المنزل، عشنا قيامة مُصغرة،لا شيء يصف الشعور آنذاك، الدمار في كل مكان، والردم فوق الجثث، ولا تعرف أأنت حيّ أم ميت؟ وهل من في البيت أحياء أم أموات؟

يقطع صوت تفكيرك الأصوات من حولك، وتبدأ تتلقى أسماء الشهداء، جاءني خبر استشهاد زوجي بعد ثلاث ساعات من استشهاد والدي وإخوتي، وعندما أخبروني  باستشهاد محمد قلتُ: " إنّا لله وإنا إليه راجعون"،  وألحقتها "يا الله كيف أنا بدي أعيش من غيرهم أو حتى كريم بدو يعيش من غير أبوه"..

يسألني أطفالي عن والدهم كثيرًا يقولون: "ماما اشتقنا لبابا هو بالجنة مبسوط وشايفنا وبحبنا.. ماما ذاكرة لمن كان بابا يعمللنا.. ويشتريلنا..و يطششنا.."."ماما أعطينا الجوال عشان نضل نشوف بابا ونسمع صوته". وكثير من الأحاديث والذكريات يتحدثون فيها أبنائي عن والدهم فيتمزق قلبي من الحزن، ولكن أتذكر أنه يجب عليّ أن أكون أقوى وأثبت من أجل أبنائي؛ فكان دائمًا محمد ينبهني بأن أكون قوية ومتماسكة  في أي موقف يحدث من أجل أبنائنا، وكان دائمًا يهدئ من روعي ويخفف عني عندما كنت أخاف من صوت القصف والصواريخ، وإن سمعني يومًا أتأفف من الحرب فيذكرني بالصبر وأجر الجهاد.

لأحدثكم قليلًا عن محمد هو رجل محبوب، خلوق، طيب، مثقف جدًا، كريم يحب مساعدة المحتاجين، وفيه صفة الإيثار، وأنيق كثيرًا ويحب الترتيب، ضحكوك مرح، وكان يحب عمله جدًا في مونتاج الفيديوهات ويستمتع به مع الدقة و الإتقان ليخرج للمشاهد بأحلى مشهد وأرتب صورة.

  لم يتبق لنا من محمدي سوى الذكريات وبعض الأشياء أخرجناها من تحت الركام كعطره وجلابيته التي كان دائما يلبسها لأضمها كل وقت واستنشق ريحتها العطرة. لقد غادرتني العزوة والسند، فخورة باصطفائهم شهداء خاصة بعد انتهائهم من شهر رمضان من صيام وقيام وختمة للقرآن وصدقاتهم وتبنيهم للأيتام والمرضى وصيام شوال.

فما أعظم أعمالهم في أيامهم الأخيرة وما أعظم أجرهم عند ربهم الكريم فيستحقون كرم الشهادة وأنه قضاء الله وقدره،  فهذا يهون علينا حرقة قلوبنا عليهم مع أن فراقهم صعب جدًا علينا، ولم نتصور يومًا بأن نعيش بدونهم، فراقهم مؤلم جدًا علينا وأيامنا وحياتنا أصبحت ثقيلة ومملة وحزينة، ولكن ندعو الله بأن يكون لقاؤنا بهم في الجنة  قريبًا إن شاء الله.