بنفسج

إلى ابنتي أمل في الدامون: رسائل شوق ومحبة

الثلاثاء 03 سبتمبر

شج 1.jpg
شج 1.jpg

إلى ابنتي أمل في الدامون: "أملي ويقيني بالله رب العالمين"، أُحدثُكُم عن ليلةِ اعتقالِ ابنتي الغالية أمل، وكلي يقينٌ بالله تعالى أنَّ كلَّهُ خير. منذُ بدايةِ السابعِ من أكتوبر؛  الضربةُ الموجعةُ  للمحتل، جُنَّ جنونَه، وافتَضَحَ إجرامُهُ في كلِ العالم، وأَخذ يرمي بِنارِهِ على أَهلِنا في غزةَ هاشم، فلمْ يُبْقِ ولم يَذَر.

 ولم يسلم منه البَشر والشَجر والحَجر، هجمةٌ مسعورةٌ لم يسبق لها مثيل، مدعومةٌ مِن أَهل الكفرِ والطُغيان، يَتَربصون لأَهل الإيمان والقرآن، ويمكرون لهم بكل ما يملكون من قوةٍ وجبروت،  "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

أمل 1.jpg

لم يكنِ الأمرُ غَريباً ومستبعداً على أهلِ الكُفرِ محاولتُهُم استئصالَ من يقفُ أمامَ مخططاتِهم، ونشرِ الوعيِ والفكرِ الرَّبانيّ، وتذكيرِ الجيلِ بقَضيَتِنا. فما كان منهم إلا القتلُ والتشريدُ وهدمُ البيوتِ على ساكنيها، وقصفُ المساجدِ على أهلِها، والتعذيبُ والاعتقالُ الهمجيِّ للشبابِ والشيوخِ والنساءِ والأطفالِ.

 فكلُّ مَن يَبذُلُ جُهدَهُ في خدمةِ قضيتِهِ مُعَرَّضٌ للاعتقال والتنكيلِ به، وقَد طالتْ أَياديهم النَجِسة فَتياتِنا العفيفاتِ الطاهراتِ بالاعتقال والحرمانِ من أدنى الحقوق.

واااإسلاماهّ! سَتُسأَلون عن حالِنا فلتَتَهيأوا للإجابة... قلوبُنا تكتوي بخذلانِكم وصمتِكم المُريب. مِن بدايةِ الحربِ ونحنُ نترقَّبُ الأَحداث، ونَنظُرُ بِحُرقةٍ وأَلمٍ إلى مشاهدَ داميةٍ تَقشَعِّرُ لها الأبدان، أَجسادٌ مقطعةٌ، وأُخرى مُتفَحِّمة.

 جَرحى يَصرُخون من شدَّة الألمِ بلا علاج، بل حتى بلا مُهَدِّئات تُخفِّفُ عنهم آلامهم، وأَمَّا مَن يقعُ مِنهم في الأَسْر فَلَهُمُ الله، تعذيبٌ بلا هوادة، تكسيرٌ لعظامِهم، وإهانةٌ لا تُحتَمل. لا أَمْلِكُ أَنْ أكتبَ عن حبيبةِ قلبي قبلَ عَرضِ واقعٍ عاشَه أَهلُنا لشُهورٍ،  مُتمَسِّكين بِدينِهم، راضينَ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه ...

أمَّا عَن مُؤنِسَتي الغالية أمل فلَها من اسمِها نَصيب؛ فهي لا تَبرحُ حتى تبعثَ فينا بريقاً مِنَ الأمل تُنيرُ بهِ الطَّريقُ الموحش، تنبضُ بالتفاؤل دوما،  مُرهَفةُ المشاعر، رقيقة، تحزنُ لأَحزانِ الوطن، وتفرحُ لأَفراحِه، شِعارُها لَنْ تَنْحَني منَّا العزائِم، تُحسنُ الظَّنَّ بربها فيزيدُها قوةً وثباتاً وإصرارًا على السيرِ الحَثيث... 


لم يكن اعتقالُها هيِّنا على قلوبِنا، ولكنَّ الله تعالى أَرحمُ بها مِنّا، وعنايَتُهُ تحُفُّها بِدُعاءِ مَنْ تَرَكَتْهُم خَلْفَها. انتزاعُ فتاةٍ عشرينيةٍ مِن أحضانِ عائلتِها بعدَ مُنتَصفِ اللَّيل بقوةٍ مُدَجَّجَةٍ بالسلاح، يَخْشَوْنَ على أنفُسِهم من أُناس عُزَّل لا يملكونَ إلا سلاحَ الدعاء. تَعساً لهم ولِقوانينهم البالية، يُبيحونَ لأنفُسِهم اعتقالَ طالباتٍ في مُقتبلِ العُمر بِحُجةِ الخروجِ عن القانون.

مشاعرٌ مختلطة تلك التي مَلأت قَلبي لحظةَ اعتقالِ فلذةَ كبدي؛ شَعرتُ بالحزنِ على فِراقها وما سَتُواجهُ أثناءِ اعتقالِها من ظروفٍ صعبة، وشعرتُ بالسعادة أنَّ صغيرتي بِفكرِها وَوعيِها وأثرِها الطَّيب تُشَكِّل خَطراً عليهم.

تمَّ توقيفُها والتَّحقيقُ معها إلى أن وِصلت إلى سجن الدامون في جبال الكرمل في حيفا المحتلة. وفي هذا المكان المحصَّن شاءَ اللهُ تعالى أن تلبَثَ في الغرفةِ رقم عشرة مع اخواتٍ اصطفاهنَّ الله ليَنَلْنَ شرفاً عظيماً، نعم؛  إنهنَّ الحرائرَ في زمن العبوديةِ المطبقةِ والموالاةِ  العَمياء.

أمل 2.jpg
أجلت محكمة مرارًا وانقطعت أخبارها إلا من زيارات المحامي القليلة

بعد أسبوعٍ من الاعتقال كانت جلسةُ المحاكمة الظالمة،  شعورُ القهرِ والألمِ والعجز وأنت ترى ابنَتَكَ مُكَبَّلةَ اليدين في محاكمِ الإجرام والظلم، ولا تستطيعُ أن تُحرِّكَ ساكِناَ، تقفُ أَمامَها بِكلِ شموخٍ وقوة، حرصاً على قلبها الرقيق، تُضْمِر الحزنَ وتحبسُ الدموع... تدعمُها بكلماتِ الثبات والشَّجاعة كوني قوية ..انت قدها.

لا حول ولا قوة لنا إلا بك يا الله، أُجِّلَت مُحاكمتُها مِراراً وتكراراً، وانقطعت أَخبارُها إلا من زيارةِ محامٍ لها، أو الإفراجِ عن أسيرةٍ تُسارِعُ في نقلِ أخبار الأسيراتِ لأَهلهِنّ؛ محاولةً تحسينَ صورةِ الوضع، وطَمْأنَةَ قلوبٍ متلهفةٍ لخبر.

ولكن ما سمعناه عن بناتِنا فاق الطمأنينةَ إلى الفرحِ والسعادة، عندما تسمعُ أنَّ ابنتكَ تقِفُ على نافذةِ الغرفةِ قبلَ المغربِ للدعاءِ والمناجاةِ بصوتٍ جميلٍ حنونٍ للأقسام كُلٍها، تصنع من المِحنةِ مِنْحةً تُسلِّي بها روحها، تحتضنُ وتواسي اخواتٍ لها،  تضمدُ قلوباً متعبةً انهكها القلقُ على ذويهنَّ خارجَ الأسر.

يَأْسرني شَوقُ لُقياها القريبِ بعائلتِها وأحبابها، وكلي أملٌ بِمُدبِّرِ الأمر، اللطيف الخبير؛ بفرجٍ قريبٍ يُطبطِبُ على عائلاتٍ تَغيَّبَ أبناؤّهم عنهم سنواتٍ طوال، وقلوبهم تئن شوقاً للوصل... فيا ربَّ الأربابِ ومُسببَ الأسبابِ حسبُنا أَنَّك ربُنا؛ نِعمَ  المولى ونعم النَّصير  ..