لم تستطع أن تتخلى عن حلمها الصغير الذي نمى بداخلها سنوات، وعند وضع أول حجر فيه، وإعلان انتصارها العظيم والأول الذي أسمته "مركز مساق التعليمي". جاءت حرب الإبادة الجماعية لتدمر الحلم ولا يبقى منه إلا ركامه، ولكن بقيت بذرة الأمل بداخلها ورددت وقلبها ينفطر: وعد هنعمرها.
أقسمت أن تبقى على عهد الحياة و"أيام زمان" التي انقلبت رأسًا على عقب، فأنشأت مركزها داخل خيمة ولكن في مخيم النزوح في جنوب القطاع، وها هي تضع بصمة جديدة في جنوب غزة كما وضعتها في شماله.
الشابة دينا عكاشة مؤسسة ومديرة مشروع مساق التعليمي في مخيم جباليا، تحكي لنا عن فكرة مشروعها الذي حولته لخيمة بعد تدمير مركزها، وعن طلابها الصغار وهم يركضون نحو التعلم حتى تحت الغارات الشديدة، عن الأمل والحياة والأمنيات في غزة.
خيمة "مساق" لتعليم الأطفال
نزحت دينا وعائلتها من جباليا في شمال غزة بعد أن أجبرهم الجيش الإسرائيلي على النزوح تحت القصف العنيف، فعبروا حاجز نتساريم وعانوا أشد أنواع الذل والتنكيل والتفتيش على الحاجز الذي قسم غزة لنصفين، حتى وصلوا إلى مدينة خانيونس، وبعد استقرار نزحوا لرفح ثم استقر بهم الحال في دير البلح، وفي وسط دوامة النزوح كانت تحمل كتبها وأقلامها لتعلم الأطفال، في كل مكان نزوح وضعت بصمة ويعرفونها ب "مس دينا".
تقول لبنفسج: "بعد أن دمر مركزي في شمال غزة، خطرت لي فكرة أن أكمل فكرة المشروع في خيمة، فالمهم أن يواصل الأطفال التعليم، افتتحت خيمتي وأسميتها باسم مشروعي، وبدأت أستقبل الصغار لنبدأ رحلة تعليمية تذكرهم بما نسوه خلال فترة الانقطاع".
لم يهن على دينا منظر الصغار وهم منشغلين بهموم أكبر من عمرهم، فمن تعبئة الماء إلى الاصطفاف على التكيات بغية الحصول على طعام، أرادت أن تخصص لهم جزءًا من يومهم المزدحم بالمشاغل الكبيرة ليتعملوا ولو لساعة.
"شعرت بمسؤولية كبيرة تجاه الأطفال لذلك لم أفكر سوى فيهم، وضعت حالتي النفسية السيئة من حياة النزوح جانبًا وقررت أن أكون نورًا بسيطًا في حياة الأطفال
وما شجعني أكثر هو إقبال الصغار على الخيمة التعليمية بكل حب وشغف واشتياق لأجواء المدرسة، وحقيقة فاجأني اهتمامهم وحرصهم على عدم الغياب".
تحاول دينا أن تدرس الأطفال جميع المواد التعليمية في الخيمة، تود أم تشعرهم بأجواء المدرسة، فلمست مقابل هذا اهتمام وحب من الصغار، ومن المواقف التي لا تنساها خلال رحلتها في خيمتها تقول: "أقبل طالب على الخيمة التعليمية متأخرًا عن الحصة وثيابه يغمرها الماء، ودموعه على وجهه.
فقال"آسف يا مس تأخرت لأني كنت صافف على طابور المي وأخدوا دوري مني فطولت، عبيت القلن وانكب مني كمان بس روحت وديته على خيمتي وجيت بسرعة"، وقتها كنت أود لو ألغي الحصة الدراسية وأجلس رفقة كل الأطفال لنبكي معه ونفرغ أطنان البكاء التي تملأنا".
حكايات خيمة "مساق"
عقدت دينا في وقت وجيز علاقة صداقة مع طلابها الصغار، فأحبتهم وأحبوها، في أحدى المرات جاءتها والدة أحد الطلاب الذي لم يتجاوز الخمس سنوات لتقول لها: "ابني روّح على الخيمة يحكيلي ماما أحمر red أخضر green، ومبسوط كتير أنه بتعلم".
فشعرت حينها بفخر كبير، وتخبرنا أن شعور الإنجاز لا تضاهيه لذة في الدنيا. إلى جانب المواد التعليمية تنفذ المعلمة دينا جلسات للتفريغ النفسي لأطفالها في الخيمة، إذ طلبت منهم كتابة مشاعرهم على الورق والرسم أيضًا، أو من لديه قصة ويود إخبارهم فليقل، وقتها قامت طالبة لتقول"يا مس بدي أحكيلكم قصتي".
تكمل لبنفسج: "أنا كنت ألاحظ على الفتاة الصغيرة علامات الألم الجسدي والنفسي وكنت أعاملها معاملة خاصة، وحينما طلبت أن تحكي رحبت بذلك جدًا وأفسحت لها وقت طويل لتعبر عن ما بداخلها.
كان تلك الطفلة في خيمة ما برفح، وعند اجتياح رفح البري تفرقت السبل، وهذا ما أحزن دينا لا تعلم أين هي وهل على قيد الحياة أم لا، تتمنى لو أن تعلم خبر واحد عنها ولكن لا يوجد.
لم تكن قصة الطفلة تلك الوحيدة التي واجهتها المعلمة دينا، حُكي لها العديد من الالام، بكوا أمامها الكثير من الأطفال، كل طفل غزي له حكاية وألم مبرح ويسأل من حوله دائمٍا: "لما نكبر بنبطل نخاف.. طب لما نكبر بخف الوجع. طب هننسى".
واقع التعليم في غزة
أما عن الواقع التعليمي في غزة وكيفية دمج الطلاب في العملية التعليمية من جديد، تردف دينا لبنفسج: "حقيقة الواقع التعليمي يحتاج إلى مجهود كبير جدًا من قِبل المعلمين والمرشدين النفسيين، علينا جميعًا أن نتكاتف بعد الحرب من أجل مستقبل الأطفال التعليمي.
لاحظت فجوة كبيرة عند الطلاب وهذه الفجوة أمر طبيعي بسبب ما عاشه الأطفال بالحرب من خوف وتشرد وجوع فكل هذا قد أثر على مستوياتهم وتحصيلهم الدراسي وعلى صحتهم النفسية، وأنا أحاول سد هذه الفجوة مع طلابي بالخيمة التعليمية وأتمنى لو أنني أستطيع جمع كل أطفال غزة بمكان كبير وأساعدهم جميعًا".
في نهاية حديثها تأمل دينا أن ينطفئ نار الحرب، ليعود الغزيين لحياتهم، لن تكون كما قبل الإبادة ولكن بجهود أولادها ستعمر من جديد، وتتمنى أن يعاد بناء مركزها الذي دُمر لتستقبل طلابها القدامي من جديد إن كانوا على قيد الحياة.