بنفسج

أطفال غزة: الصدمات النفسية ومحاولات التعافي

الخميس 12 سبتمبر

"ماما خايف.. بديش أموت.. شو صوت القصف هاد.. قريب يا ماما.. بديش أصير أشلاء يا ماما زي ابن جيرانا"... في حرب الإبادة الجماعية كبر أطفال غزة عمرًا فوق عمرهم، لم يعد للحياة معنى أو غاية، كل ما يتمنوه أن يعودوا للركض في الأزقة في لعبة "الغميضة"، أو اللعب في المنتزهات ومشاكسة بعضهم البعض كما كانوا.

 لكن الآن جل أحلامهم أن يعيشوا دون انفجار أو غارة، دون هاجس الموت الذي لا يفارقهم، أو سؤال "افرض استشهد بابا يا ماما أو أنتو الاتنين أنا شو بدنا أعمل بدي أضل لحالي".. إنه سؤال قاس على النفس لا أجوبة له ولا القلب يتحمل وضع الفرضيات مع أن هذا زمن الموت المحقق بلا شك.

وسط كل هذا الخوف والتساؤلات التي لا تعرف الأمهات صياغة إجابة مطمئنة لها، يعاني كثير من أطفال غزة من الصدمات النفسية أو نوبات هلع أثناء سماع الغارات الشديدة، وحركة الطيران الحربي في الأجواء، وتتطور الحالة معهم إلى سخونة في الجسد وارتجافة وبكاء وصراخ متواصل، فماذا تفعل الأم الغزية مع الصدمة التي تصيب طفلها الخائف، نحكي هنا عن تجربة أمهات أُصيب أطفالهن بهلع وخوف مرعب، وعن رأي علم النفس وتعريفه لاضطراب الصدمة وأعراضه وكيفية التعامل معه؟

خوف من القصف

لم يعتد أبدًا محمود على الجنازات على الرغم من أنها تسير يوميًا ويراها من نافذة البيت تمشي نحو المقبرة القريبة منا، ولا ينفك عن البكاء عند رؤية الشهداء...
 
ضحى والدة الطفل محمود البالغ من العمر 4 سنوات، يعاني طفلها من خوف شديد من سماع صوت الإسعاف أو رؤية جنازة من نافذة البيت، فور سماعه لصوت الإسعاف يركض ليجلس بجانب الحائط ويبدأ وجهه بالشحوب.

السيدة منة حسن واحدة من الأمهات الغزيات التي أرهقتهن الحرب، وقضت على ما تبقى لهن من أمل، لم تكن حربها حرب واحدة بل حروب متعددة على مدار اليوم مع طفلها براء البالغ من العمر 6 سنوات، الذي يصاب بنوبة هلع فور سماعه للغارات الشديدة.

 تقول لبنفسج: "منذ أول يوم في الحرب وهو يرتجف كلما سمع غارة قوية، حتى أنني تركت بيتي وتوجهت لبيت عائلة زوجي لأقطن مع شقيقاته لتخف نوبات هلعه ولكن أبدًا لم تقل، فأنا أعرفه من شحوب وجهه كلما خاف يرتمي على الأرض ويبدأ بالبكاء والارتجاف، وترتفع درجة حرارته".

تكمل: "كنا في شمال غزة في بداية الحرب ولكن مع دعوى الاحتلال للنزوح للجنوب بزعم أنها مناطق آمنة ترددنا جدًا في الخروج من الشمال، ولكن مع اشتداد الأحزمة النارية وازدياد خوف طفلي اضطررنا للنزوح، وذلك بعد إلحاح منه بأن الآمان هناك في الجنوب".

"كنا في شمال غزة في بداية الحرب ولكن مع دعوى الاحتلال للنزوح للجنوب بزعم أنها مناطق آمنة ترددنا جدًا في الخروج من الشمال، ولكن مع اشتداد الأحزمة النارية وازدياد خوف طفلي اضطررنا للنزوح، وذلك بعد إلحاح منه بأن الآمان هناك في الجنوب".

انخدعت عائلة منة بزعم الأمان والمنطقة الإنسانية مثلها كمليون مواطن من شمال غزة نزحوا نحو الجنوب وسرعان ما اكتشفوا كذبة الاحتلال، فتكمل: "ضل ابني يسخن ويرتجف كل ما يسمع غارة زي مهوا ما تحسن، بعد بفترة صار يشوف الولاد بتطلع وبتنزل من الخيم بعبوا مي وبقفوا على التكيات. صار يتشجع ويروح مع أخوه يصف على طابور المي، وأنا بضل حاطة أيدي عقلبي خايفة يصير قصف قريب ويغمى عليه من الخوف".

أما ضحى والدة الطفل محمود البالغ من العمر 4 سنوات، يعاني طفلها من خوف شديد من سماع صوت الإسعاف أو رؤية جنازة من نافذة البيت، فور سماعه لصوت الإسعاف يركض ليجلس بجانب الحائط ويبدأ وجهه بالشحوب، ولا تستطيع والدته عزله عن الأصوات كون السيارات تمر من أمام البيت دائمًا محملة الأصابات والجرحي لمشفى العودة.

تقول لبنفسج: "بكون محمود يلعب ويمرح برفقة الصغار وفور سماعة صوت الإسعاف يركض سريعًا ليجلس بجانب الجدار، ولا يتحرك إلا عندما يغيب الصوت، وكذلك عندما تمر جنازة شهيد من أمام البيت تصيبه حالة خوف وشهيد وينادي كل من في البيت "أجا شهيد أجا شهيد"، لم يعتد أبدًا محمود على الجنازات على الرغم من أنها تسير يوميًا ويراها من نافذة البيت تمشي نحو المقبرة القريبة منا، ولا ينفك عن البكاء عند رؤية الشهداء".


تردف ضحى: "في إحدي المرات كنا نجلس بشكل عائلي مع الأعمام والعمات وأولادهم، وأثناء الحديث مازحته عمته "خلص بدي استشهد وأسيبك".. فدخل في نوبة بكاء مخيفة، وكلما سمع عن احتمال استشهاد أحدهم يبكي أيضًا وينعزل ولكننا نحاول أن لا نحكي أمامه عن الشهداء، دائمًا نطمأنه ونقضي أوقاتنا معه باللعب والرسم".

ما هو اضطراب الصدمة؟

اضطراب ما بعد الصدمة.jpg
اضطراب ما بعد الصدمة عند الأطفال 

في السياق ذاته، تعرّف المختصة النفسية زينب حناوي نوبة الهلع بأنها حالة مفاجئة من الخوف الشديد والقلق، يصاحبها خفقان سريع في القلب، وارتجاف وضيق تنفس ودوار وغثيان، وشعور قوي بالخطر الوشيك، وفقدان السيطرة على النفس، ولكن أكثر ما يميزها هو أنها لا مبرر مقنع لها. وبالتالي فإن ما يصيب الأطفال في غزة هو أعراض صدمة نفسية وليس نوبات هلع، علما أنهم يتعرضون لصدمات متكررة ومتراكمة وجمعية، بالإضافة إلى أن مسبّب الصدمة لا يزال قائمًا حتى الآن وهو العدوان الجائر على غزة. 

ووفقًا للمختصة، يعاني الأطفال في تلك الحالة من الخوف الشديد والكوابيس والصراخ المتواصل والأعراض الانتكاسية كالتبول اللإرادي والأعراض التجنبية والمزاج السلبي والسلوكيات العنيفة والتعلق الزائد بالأمهات والآباء وغيرها من أعراض الصدمات النفسية.

وعند سؤالها كيف للأمهات أن تخفف من حدة الصدمة على طفلها؟ تجيب: "إن أمهات غزة يقُمن بالكثير من الأساليب التي قد تساعد الأطفال حتى دون الرجوع للمختصين، فقد رأينا فيديوهات وقد بدأ فيها الأطفال بالاعتناء بالحيوانات الأليفة أو زراعة النباتات للمساعدة في تشتيت انتباههم عن العنف الدائر.

بإمكانهم كذلك إتاحة المساحة للطفل للتعبير عن نفسه بأسلوب جيد للتخفيف عنه دون أن يتم الضغط عليه ليتحدث، إضافة للتلامس الجسدي باحتضانه والتربيت على رأسه، و محاولة طمأنته بالقول ( أننا معًا في كل الأحوال، وسأعمل كل جهدي لحمايتك)، ودعوته للتخيل المستقبلي كأن يتخيل الطفل ماذا سيفعل بغرفته عندما يعود إليها أو بمن يحب أن يلتقي من أصحابه عندما تنتهي الحرب، أو ما هي خططه عند عودته للدراسة، وبذلك يستطيع الطفل فصل نفسه عن الواقع قليلًا وتوقع أحداث جميلة.

أما عن تأثير اضطراب الصدمة على أطفال غزة على المدى البعيد، تقول زينب: "يعود الأمر للفروق الفردية، فمن الممكن أن لا يتأثر الطفل بشكل مرضي بعد انتهاء مسبب الحدث أو الصدمة فتجده يتعافى نفسيًا لوحده بمجرد انتهاء العدوان والاحتضان العائلي والعودة للمدارس مثلا، ويوجد طفل آخر يتعرض لما يُسمى بنمو بعد الصدمة، فيصبح أقوى نفسيًا مما كان عليه قبل الحرب،  ولا شك أننا أيضا سنجد أن هناك الكثيرين ممن سيحتاج إلى علاج متخصص حتى يشفى من صدمته".