تستمر الحرب حتى أنها تقترب من السنة، وتستمر معها الإبادة الجماعية، ومحو سجلات العائلات في غزة، محو لعائلات كاملة ربما يبقى منها ناجيًا وحيدًا يتحسر على عائلته ويعيش حزنًا أبديًا. واليوم تستضيف بنفسج في حوار من تبقى من عائلة أبو غبن.
ما ظل إلا أنا وإنت
"شو صار.. وين أنا".. لم تذكر أبدًا ما الذي جرى تلك الليلة التي خلدت وعائلتها للنوم مبكرًا على غير العادة، استيقظت من غيبوبتها القصيرة لتستفسر عما جرى وهي مصدومة من آلامها الجسدية، وجدت أختها إسراء فاطمأنت، حتى قالت لها: "كل العيلة استشهدت ما ضل إلا أنا وأنتِ".. ارتجفت وردت: "دفنتوهم".
فقيل لها إنهم ما زالوا تحت الأنقاض، فدب الأمل في قلبها قائلة ربما تحدث معجزة فالمستحيل على الله هين ونخرجهم أحياء، لم يكن استيعابها للأمر سهلًا ولكنها رضيت بقضاء الله وقدره، ساندتها شقيقتها الناجية وبقت معها، كانت حالتها ميئوس منها تحتاج للبقاء في العناية المركزة تحت الأكسجين، رفض الأطباء لكثرة الحالات كون حالتها ربما تتحسن من تلقاء نفسها.
وأصر أعمامها على إنقاذها وضغطوا على المشفى لإدخالها العناية فعاشت. تروي لبنفسج آلاء أسامة أبو غبن عن قصف المنزل عليهم وهم نيام، عن والدتها وأشقائها، وعن الإصابة التي أهلكتها، عن عوض الله المتمثل في شقيقتها.
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني2023، قتل الجيش الإسرائيلي عائلة كاملة فلم ينجو منها إلا ابنتان، كان الأمر مثيرًا للجنون، فكيف لصاروخ إسرائيلي واحد أن يودي بحياة عائلة بأحلامها بأمنياتها، بأملها الذي كان واثقًا أن الهدنة المؤقتة آنذاك ستستمر، تقول لبنفسج عن ليلة الاستهداف: "في ليالي الحرب كنت استيقظ على رأس كل ساعة، ومع صوت كل غارة افتح عيني، ولكن تلك الليلة التي قُتلت عائلتي بها لم افتح عيني أبدًا، قيل أن الغارة كانت بعد منتصف الليل بقليل، ولكني لا أذكر أي شيء أبدًا".
عاشت آلاء وعائلتها ألم النزوح فانتقلوا من بيتهم في دوار التوام شمال غزة، إلى منزل أقارب لهم بجباليا، ثم اشتد القصف في منطقة نزوحهم فانتقلوا لبيت آخر، وفي 14 أكتوبر 2023، وبعد اتصالات من الحيش الإسرائيلي يخبرهم بها أن شمال غزة منطقة قتال خطيرة، نزحوا للجنوب في بيت هناك، وواصلوا حياتهم ما بين توفير مقومات الحياة، يصطفون على طوابير المخابز بالساعات لتوفير الخبز.
العائلة: دُفن البعض وبقي البعض الآخر تحت الأنقاض
قبل ليلة الاستهداف أخبرهم صاحب البيت أن عليهم الخروج لأن ابنته ستأتي للعيش به، فجهزوا كل أغراضهم وكانوا سيغادرون في صباح اليوم التالي، لكن لم يحل الصباح عليهم، قتلوا وهم نيام، كان الفارق بين الموت والنجاة ساعات ولكن إن قُضي الأمر لا منجى منه.
تكمل لبنفسج: "كنا ننام في تلك الليلة منفصلين والدي وأمي وإسماعيل وشقيقاتي أفنان وآية وإكرام بغرفة، وأنا وشقيقتي إسراء وزوجة أخي وأولادها ريمي وأسامة بغرفة ثانية، قيل لنا من الشخص الذي أنقذنا أنه وجدنا بالشارع على بعد من المنزل، أنا وإسراء وزوجة أخي، بفعل قوة الصاروخ طرنا للخارج، فُكتب لي ولشقيقتي النجاة".
أختي إسراء حكتلي أنها تعرفت على آية من تقويم الأسنان، واختنا أفنان كان النصف السفلي من جسدها مش موجود فعرفتها من أواعيها، ودفنوا أمي وآية وأفنان وولاد أخويا ريمي وأسامة
في الثامن من ديسمبر 2023 وبينما آلاء تقاتل إصابتها الخطيرة لتنجو، أخبرتها شقيقتها وهي منهارة عن انتشال جثماين العائلة من تحت الأنقاض ما عدا والدها وشقيقها إسماعيل وشقيقتها إكرام، فتقول: "أختي إسراء حكتلي أنها تعرفت على آية من تقويم الأسنان، واختنا أفنان كان النصف السفلي من جسدها مش موجود فعرفتها من أواعيها، ودفنوا أمي وآية وأفنان وولاد أخويا ريمي وأسامة".
آلاء إصابة ميؤوس منها
لم تكن آلاء تستطيع مجابهة الألم القاس الذي يباغتها على الدوام، صنفها الأطباء حالة ميؤوس منها، رفضوا وضع الأكسجين لها وإدخالها العناية المشددة مدعين " في حالات بتتحسن من دون أكسجين فعادي". وقف الأعمام بوجههم وأصروا على إنقاذ حياتها وأجبروهم على إمدادها بالاكسجين.
تردف لبنفسج: "كان معي كسر بالجمجمة والتهاب رئوي حاد وكسر بالفخد الأيمن وكسور بضلوع الصدر، وكسر بالفقرة 12، ورفض الأطباء إجراء عملية في الفخد إلا حينما يتحسن صدري، فأصبحت أعاني من تيبس بالركبة، بعد أسبوعين رفعوا عني الأكسجين، ثم اكتشفوا وجود تجمع دموي بالرئة اليمنى، سرعان ما اُتخذ قرار اجراء عملية لتركيب أنبوب بالصدر، وأجروا عملية بالفخد".
بعد أيام ولعدم توفر الإمكانات الطبية لاستكمال علاج آلاء أُصدر لها تحويلة طبية للعلاج بمصر، فوضعوا ابنة عمها كمرافقة، فرفضت رفضًا قاطعًا السفر بدون شقيقتها إسراء، وبعد محاولات وضعوها كمرافق، وسافرتا سويًا في السادس عشر من ديسمبر 2023.
تكمل لبنفسج: "فور وصولي للقاهرة أعاد الأطباء كل التحاليل من جديد، وفور رؤيتهم لكسر الجمجمة أخبروني بحاجته لعملية تجميلية، أنا أنبوب الصدر كان مركبًا بطريقة خاطئة، فأزالوه وأجروا العملية من جديد، وبعدها تم تحويلي على مشفى آخر ففي الطريق حدث خلل بعملية الفخد فكان لزامًا أن أذهب لمشفى متخصص بالعظام، وهناك أُجري لي عمليتان للفخد وتركيب مسمار نخاعي، وركبوا شريحة لتثبيت كسر الجمجمة".
بعد رحلة علاج مريرة وطويلة تحسنت آلاء واستطاعت المشي بعرج خفيف، ولكن ندوبها النفسية ما زالت تؤرقها ولا تطيب، وها هي تعيش الآن بالقاهرة تتابع علاجها رفقة أختها إسراء.
العائلة وأمنيات لم تتحقق
بالعودة إلى الحديث عن العائلة، تخبرنا آلاء عن والدها الذي كان يعمل كمنسق تربوي في وكالة الغوث "الأونروا"، فكان نعم المرشد للمعلمين، كان يثق في بناته ثقة تامة، ويحبهن حبًا كبيرًا، تصفه ابنته ب "الحنون"، أب لأولاده ولأشقائه مع أنه أصغرهم، حين استُشهد انهار أشقاءه.
تكمل لبنفسج: "أحد أعمامي مرض جدًا بعد استشهاد والدي ومن حزنه توفي بعده بـ 3 أسابيع، أما عمها الثاني كان يزورها بالمشفى باستمرار ويخبرها أنه معهما "رح أدير بالي عليكم يا عم ما تقلقن".. لكنه بعد سفرنا للعلاج ساءت حالته الصحية وتوفي بعد استشهاد أهلي بثلاث أشهر". أما عن والدتها التي كانت تأمل أن تنطفىء نار الحرب.
وتكمل وضع القرش على القرش لتذهب زيارة لبيت الله الحرام مع زوجها، تقول آلاء: "كانت بالحرب تحكيلنا بس تخلص الحرب أي حدا نفسه بأي شي هعمله اياه واسويه بس شو بدكم كانت حنونة وطيبة كتير كانت خايفة ع الكل وترن وتطمن ع الكل بالحرب، نامت ليلتها وهي بتفكر بأقاربنا اللي ضلو بالشمال كانت خايفة عليهم كتير".
لم تكن علاقة آلاء بشقيقها الذي يكبرها بعام واحد فقط عادية أبدًا، أصرت عليه ليلة القصف أن ينام مكانها لكنه رفض بشدة، "يمكن كان هوا عايش الآن لو كان بدلنا"، كان يعمل مدرسًا للغة العربية، حلمه أن يكون مذيعًا بالجزيرة، أما أطفاله ريمي 4 أعوام وأسامة 10 أشهر، تكمل لبنفسج: "في نزوحنا من الشمال للجنوب كانت تجلس ريمي بحضني طوال الطريق، وتقول "عمتو احنا رايحين ع الجنة"، وكانت تسأل أمها دائمًا بالجنة في مسبح وحاجات زاكية" ، أما أسامة كنا سعيدين جدًا بقدومه على عائلتها التي أغلبها بنات".
أصرت آلاء على شقيقها ليلة القصف أن ينام مكانها لكنه رفض بشدة، "يمكن كان هوا عايش الآن لو كان بدلنا"، كان يعمل مدرسًا للغة العربية، حلمه أن يكون مذيعًا بالجزيرة
أما عن الشقيقات تروي لنا آلاء أن آية كان حلمها أن تزور تركيا، وأفنان كانت تحلم بالعمل بشركة سياحية، وكانت أكثرهن خوفًا في الحرب، فتنام بجانب والدتها، فيما إكرام آخر العنقود تسأل "معقول الحرب تضل لعيد ميلادي"، أخبرت شقيقاتها أنها لا تحتمل أن يحدث لأغراضها شيء، ولكن البيت احترق وإكرام قُتلت.
كن يتمنين الشقيقات أن يذهبن للعمرة سويًا، وأن يحققن كل الأحلام التي حلمن بها، ولكن أمر الله نافذ، ذهبت آلاء وإسراء للحج العام المنصرم وحققن الأمنية بدون الأحبة، فواست نفسها: "الحمدلله كلهم بمكان أحسن، رضينا بقضاء الله رضينا".
تختم حديثها لبنفسج: "بتمنى نقدر نطلع جثمان أبويا وأخويا وإكرام من تحت الأنقاض، وفي جوايا وجع كبير لإني ما ودعت ولا حدا، وإن شاء الله عودتنا قريبة لنرجع نعمر بيتنا من جديد".