بنفسج

رنا حمدان: تسنيم طفلتي التي استشهدت في حضني

الثلاثاء 17 سبتمبر

رنا حمدان تفقد عائلتها
رنا حمدان تفقد عائلتها

حوار آخر تجريه بنفسج من الميدان في غزة مع الأهالي الذين تعرض ذويهم للقتل، فعايشوا لحظات القصف، وظلوا تحت عتمة الأنقاض، ليس ذلك فحسب، بل احتضنوا أجساد أحبائهم التي بردت بعد أن انهالت عليها الجدران الإسمنتية والحديد والأتربة. هذا الحوار تجريه بنفسج مع رنا حمدان إحدى الناجيات الفاقدات. 

15 دقيقة تحت الأنقاض

رنا 3.jpg

"مين عايش جنبك".. أجابتهم من تحت الأنقاض بصوت خافت جدًا "أنا وتسنيم بس استشهدت" فرد عليها رجل الدفاع المدني: "وحدي الله إن شاء الله بنطلعها عايشة وبخير".. لم تكن الخمسة عشر دقيقة التي استغرقتها عملية الإنقاذ بمثابة دقائق بالنسبة لرنا، بل أحست وكأنها سنوات، وما زالت تبكي ابنتها وهي تحتضنها.

 فماذا يعني أن تعيش لدقائق تحت الأنقاض! ماذا أن تتمسك بجثة طفلتك التي بلغت من العمر ستة أشهر مؤخرًا! لم تشعر إن كان جسدها باردًا أم لا، كل ما شعرت به ما كان إلا قلبها المقهور، كانت تنتظر أن يطل عليها زوجها ويأتي ليمسك بها وبطفلته ولكنها تذكرت قوله: "يارب يا بابا تكفنيني قبل ما أكفنك يارب ما أشوفك مكفّنة". فكان رحمة من الله بقلبه أن يستشهد في نفس الثانية التي حلقت روح طفلته للسماء.

تستضيف بنفسج رنا باسل حمدان زوجة الشهيد وأم الشهيدة، لتخبرنا عن اللحظات الأخيرة، وعن طفلتها تسنيم، وعن زوجها التي وصفته بالتقي الحنون، عن الأحلام التي لم تمهلهما الحياة فرصة لتحققيها، والحرب التي سلبت أرواحهما.

أغلى شخصين يلفهما الكفن

رنا 2.jpg
 

يا لها من مفارقة حياتية من مرعبة، من محاولة لسرقة المرح واللعب مع طفلتها تحت الغارات العنيفة، إلى اتشاح الحياة بالسواد بعد دقائق؛ كان الفارق لحظات ليس إلا، وهي تسمع ضحكات تسنيم تصدح في المنزل، فكانت المرة الأولى التي يعلو بها صوتها للضحك، والمرة الأخيرة.

 تقول لبنفسج: "خلدت للنوم أنا وتسنيم بعد ساعة من اللعب معها والنظر لوجهها الجميل أنا وزوجي وذهب هو للصالون رفقة أشقائه. وبقيت أنا وابنتي وأطفال من العائلة في الغرفة لننام، ولكن سرعان ما انفجر الصاروخ بالبيت، وكنت بثواني تحت الأنقاض أحتضن ابنتي، لم اسمع أي صوت ممن كانوا بالمنزل، جميعهم قُتلوا، حتى تسنيم مع أنها كنت احتضنها إلا أنها اُستشهدت".

"مين معك تحت في حد عايش، أنتِ وين بالضبط اوصفيلنا مكانك".. كان صوتها خافتًا للغاية ورجال الدفاع المدني يستفسرون منها عن مكانها وعن الأحياء معها أسفل البناية، نجت هي وقُتل الجميع 9 أفراد استشهدوا بصاروخ واحد، تخبرنا أن زوجها لم يستطع المنقذين انتشاله إلا بعد سبع ساعات بسبب عدم وجود المعدات اللازمة التي تُسرع من عملية الانتشال.

أذكر في مرة أنني غطيتها بغطاء شتوي باللون الأبيض وألبستها فستان أبيض، فنظرت لها وشعرت أنها بالكفن فقلت لمحمد: "أنا بتخيل أني بكفنها بس تلبس أبيض هيكا" فرد: تعوّذي من الشيطان، يارب يا بابا تكفنيني قبل ما أكفنك يارب ما أشوفك مكفّنة، كتير بيخاف عليها وبيحبها

أما لحظة الوداع الأخيرة وطبع القبلة الأخيرة على جبين حبيبها وروحها، كانت قاسية ولا لغة تستطع التعبير عنها، "كنت أدعي يارب ثبّت عليا عقلي روحين أغلى من روحي مكفنين! ودعتهم بس ما قدرت أودع الأطفال الي كنا نايمين بنفس الغرفة معهم، كنت كتير مصدومة أودع 9 أشخاص كنا بنفس البيت وناكل من نفس الأكل و فجأة يروحوا بغمضة عين".

تضيف رنا لبنفسج: "أذكر في مرة أنني غطيتها بغطاء شتوي باللون الأبيض وألبستها فستان أبيض، فنظرت لها وشعرت أنها بالكفن فقلت لمحمد: "أنا بتخيل أني بكفنها بس تلبس أبيض هيكا" فرد: تعوّذي من الشيطان، يارب يا بابا تكفنيني قبل ما أكفنك يارب ما أشوفك مكفّنة، كتير بيخاف عليها وبيحبها". 

رنا 1.jpg

تستذكر رنا حين رأت زوجها لأول مرة، فقالت: "هذا هو ما أريده".. فلم يخيب ظنها طوال فترة زواجهما فكان نعم الزوج الصالح، في مرضها وعافيتها سواء، يساعدها في أعمال المنزل، ولا يخجل أن يقول لقد غسلت وطهوت، وفي حرب الإبادة الجماعية جاءت ذكرى ميلادها ولم يكن أي محل للكيك يعمل، فقرر أن يصنع لأجلها ليلة لا تُنسى. فتقول لبنفسج: "خطط ونفذ وعقد جلسة مع أهله، واحتفلوا بذكرى ميلادي بحفلة شواء بسيطة، لتكن ذكرى جميلة لنا في المستقبل.

 ولم ينس أن يجلب لي البيبسي الذي أحبه فذهب لمكان بعيد جدًا ليأتي بعبوة، انتهى الحدث ورحلوا كل من كان بالحفل وبقيت أنا والذكرى". استُشهد شقيق رنا في بداية الحرب، فما كان منه إلا أن خفف عنها، يواسيها ولا يتركها لفكرها، فكانت طبطبته بمثابة شفاء للقلب المكلوم، لقد ذاقت نار الفقد في الشقيق وبعد أشهر وجيزة جربتها في الزوج والابنة فكان اختبارًا صعبًا على النفس.

كان يطمئنها على الدوام، ويقضي وقته معها بقراءة القرآن، كان محفظًا للقرآن في المسجد، وأستاذًا للغة العربية، في أول ذكرى زواج لنا التي جاءت بالحرب سرد القرآن الكريم لي بالكامل على جلسة واحدة من بعد الفجر وحتى العصر، وفي اليوم التالي سرده في صفوة الحفاظ لشيخه

أما عن طفلتها تسنيم، تضيف لبنفسج: "هي حبيبة أبيها فهو من سماها. يا الله كم كان يحبها، وأنا كنت أنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي الحرب ليأتي عيد ميلادها الأول واحتفل بذكرى ولادتها، كنت أود أن أرى أول خطوة وأول مشاغبة، غنيت لها كثيرًا " يا حبيبة أمها يخواتي بحبها".

أما عن رنا التي كانت تخاف الحرب كان يطمئنها على الدوام، ويقضي وقته معها بقراءة القرآن، تكمل لبنفسج: "كان محمد محفظًا للقرآن في المسجد، وأستاذًا للغة العربية، في أول ذكرى زواج لنا التي جاءت بالحرب سرد القرآن الكريم لي بالكامل على جلسة واحدة من بعد الفجر وحتى العصر، وفي اليوم التالي سرده في صفوة الحفاظ لشيخه".

تمنى محمد أن يصطحب زوجته وطفلته للعمرة، وأن يجوب دول مختلفة للسياحة، ليجلب تذكارات من كل دولة، ليهديها لتسنيم حينما تكبر، وتمنت رنا أن يكتب الله للأحلام الاكتمال وتراها واقعًا أمام عينيها، ولكنهما نالا الشهادة  بعد شهرين من الحرب ويا حظ من نالها.تردف رنا: "كتير كان عنّا أمل تنتهي ونضل سعداء ومبسوطين.

 ولا مرة حكينا إننا بدنا نموت، دائمًا يحكيلي بعد الحرب بدي أطلعكم سياحة تنبسطوا وأوضكم يا حبيبتي عن الي شفتوه في الحرب، ما كان بيعرف إنه رح نشوف أيام سيئة بدونه".  أما عن تسنيم حينما قالت "بابا".. لأول مرة فرح محمد للغاية واتصل بعائلة زوجته في الجنوب ليخبرهم بالخبر الجميل، وركض نحو والدته في الطابق السفلي ليخبرها، كان سعيدًا جدًا بأول كلمة من صغيرته.

 كان يخطط لحياتهما خطط لا تنتهي، ولا يود الموت قبل أن تنتهي أحلامه. تخبرنا رنا أن تسنيم رحلت قبل أن تزول ندوب ولادتها، ولم يبق أي شيء منها سوى "ماشا" الدمية التي احتفظت بها لتكون لابنتها مستقبلًا، استخرجتها من تحت الأنقاض وعندما رأتها بكت شوقها لطفلتها وأحلامها التي لم تكتمل بحضرتها.