أوشك أن ينقضي عام بالتمام والكمال على الأحداث الشنعاء وما يجري في غزة الجريحة. أُشهد الله أن قلمي يتعثًر وكلماتي تتبعثر وبحق الله، لا أجد ما أقول في ذاك الظرف الحزين. لقد اعتاد مني الناس أن أنشر حكايا ملهمة وقصصًا تبث روح الخير وتحفز الهمم، ولكن بحق الله من أين يتأتًي لنا هذا وقلوبنا مكلومة، قدر الوحشية والظلم الذي اجتاح العالم أصبح فوق قدر التصديق وليس فقط فوق قدر الاحتمال.
أتمني أن يقبل الله منا تعبُّدنا إليه بالحزن علي ما يجري، أتمنى أن يقبلنا الله فيمن كره الظلم بقلبه ونكره بلسانه ويده قدر المتاح المستطاع. نحن شهود على هذه المذابح، وماذا عسانا أن نفعل في كل هذا الخَبَث والخُبث!
لقد كثر الخَبَث، وانتشر واستفحل وصار طافيًا على أسطح القلوب والألسنة... نحن كشهود عيان على ما حدث، نركن في جُبن في الخفاء ونسأل الله السلامة والعافية، ظنًا منا أننا في نصف سلامة وربع عافية، وبحق الله، ووفقًا لكل الحسابات الإلهية، أهل فلسطين وغزة هم من باتوا وأصبحوا في عافية وسلامة، هم في عافية من ذاك العالم المنافق وفي سلامة من فتن كقطع الليل المظلم..
أتمني أن يقبل الله منا تعبُّدنا إليه بالحزن علي ما يجري، أتمني أن يقبلنا الله فيمن كره الظلم بقلبه ونكره بلسانه ويده قدر المتاح المستطاع
هم من نجوا من ذاك العالم الذي أصبحت فيه الحياة بأحداثها وناسها، سلامها أو حربها مخيفة أكثر من الموت...ما عسى الأطهار أن يفعلوا في كل هذا القدر من القبح والقيح و الضلال العَفِن! والله لقد كتب الله عليهم الموت حقاً، ولكنه موت الدنيا، ظاهره الفزع، وباطنه الموت الهنيئ.
موت أوله ثقيل ولكن آخره طيب كالثُبات العميق، موتهم حلًق حول الأذهان بضع من الوقت حتي استسلمت الأجفان من فرط التعب والحزن والركض والنزوح، وخارت قواهم بعد هوانهم علي أهل الدنيا. وبعدها ترقد الأبدان دون استئذان في هدوء، نعم في هدوء حتي لو لم تعد بعد أبدان، بل أشلاء جمعوها في حاويات لا يميزون أصحابها ولا ماهيتها،فليكن ما يكن.
نحن على يقين بالوعد الإلهي أنه سيبعثها الله على حالها تشهد على القتلة الفجرة، وتشهد على تجار الموت والدماء، وتشهد على الخونة المرتزقة، وتشهد على تجار القضايا وأصحاب المصالح، وتشهد على الكاذبين والمنافقين المأفونين.. سيبعثها الله ملطخة بدماء الشهداء الزاكية العطرة، اللون لون الدم والريح ريح المسك، نحسبهم عند الله في الشهداء كلهم، صغيرهم وكبيرهم، نساءهم ورجالهم، أطفالهم وشبابهم وعجائزهم بإذن الله.
ولا نزكِّي على الله أحدا..
اللون لون الدم والريح ريح المسك، نحسبهم عند الله في الشهداء كلهم، صغيرهم وكبيرهم، نساءهم ورجالهم، أطفالهم وشبابهم وعجائزهم بإذن الله
أما بعد،
فبقلب يعتصره الأسى أحدثكم بالله ألا تنسوا أهل غزة من دعائكم، الدعاء مخ العبادة ويغير الأقدار أو يعتلجها، فلا تبرحوا منابر الدعاء حتى تبلغوا بشريات الإجابة. أذكر نفسي وإياكم بوجوب المقاطعة، قاطعوا بضاعة القتلة، ما أدراكم بنفعها وهي من صناعة من مزقوا إخواننا كل ممزق؟ إن لم تناصروهم بأموالكم، ناصروهم وآزروهم بمقاطعة من استباح دماءهم وأعراضهم وأرضهم وما عليها!
لا بارك الله فيمن رأى كل هذه الدماء تُزهق، وأشاح بوجهه، والله لتسئلُن، تبرأوا من هذه الدماء، تبرأوا من عون الظلمة والوقوف لديهم، لا تعينوا ظالما علي مظلوما، لا تعينوا اللصوص والأنذال والفجرة، لا تقربوا بضاعتهم قدر ما استطعتم وكل ما استطعتم...هذا غيض من فيض مما يستوجب علينا أن نفعل، وهي أفعال علي تواضعها لها عظيم الأثر، لأنها لوجه الله الخالص. لا سمعة فيها ولا رياء...
ولا تفرقوا، ولا تنابزوا، ولا تناحروا، ولا تتنافسوا بالشر وفي الشر، لا تشغلكم الانقسامات والأحزاب، لأن الانقسام والتناحر وخلاف الرأي في هذه المسألة يفسد كل قضية، وهذا هو ما نبهنا إليه الكاتب الفلسطيني القدير غسان كنفاني، كان روائيًا كثير الإنتاج وكلماته كالرصاص، لا يداهن.
في إحدي رواياته روى كنفاني قصة تلخص ماهية نوايا المحتل في تزكية أشخاص على حساب أشخاص بتقريب البعض ونبذ البعض الآخر ومدى التأثير البعيد على ذلك في خلق روح الانقسام والتنافر بين أبناء الفصيل الواحد.
في رواية " عائد إلى حيفا" يخبرنا عن قصة أخين توأم فرقتهما ظروف الحرب، وترعرع أحدهما في موطنه، بينما انتُزع الآخر ليتربي في موطن آخر بثقافة أخرى وعوالم أخري، ثم تدور الأيام ويجتمع الأخين صدفة، في حرب أخرى، اجتمعا فيها كعدوين وعلى أحدهما أن يقتل الآخر كي ينجو، وبينما هما بين شد وجذب.
يكتشفان الشبه الرهيب بين ملامحهما ويبدأ بينهما الحديث عن نشأتيهما ليصلا في نهاية المطاف إلى أنهما أخوين. أخوان فرقتهما السبل وجمعتهما ليقفا متضادين متناحرين كعدوين لدودين طال بينها الثأر، وهما فقط أخوين. كانت رواية في غاية الفطنة والذكاء، لو قرأتها بتأن، ستسأل، كيف استطاع كنفاني في القرن الماضي أن يري المستقبل بهذا الوضوح!
من عظيم فتن هذا الزمن، أنه زمن هرج، وانقسام. زمن اختلط فيه كل شئ وأصبحت الرؤي مشوشة، فبات من الصعب التمييز...سبحان الله، أرى هنا لم جعل الله أعظم الأعمال الصالحة التي أمرنا بها، هي إصلاح ذات البين، وذلك لأن لو البين غير صالح، صار هَيِّن مستساغ، سهل علي كل عدو وأي عدو فاقتنصه ليلوكه بين أنيابه...