ربعُ قرن والحياة أكثر هشاشة والمنية أقرب، لقد كبرت في مدار العمر عامًا وأنا أسرح في ما يُمكن أن احتفل فيه، فوجدت إجابتي في حضن عائلتي، وبعض الوعي الحياتي، فأحب أني التمس الأشياء بالأشياء لأدرك القيمة وأحفظها من بعد، فما أشد امتناني على الصحة بعد المرض والأمان بعد الخوف والروية بعد الظمأ.
وما أشد حاجتنا إلى الضعف للعودة إلى مصدر القوة، وما أحوجنا أن نتذكر الموت كي نعيش حياةً كما الحياة، ثمّ وإني أحب أني أعرف كأس والدي المفضّل وطريق عودته من قمة العصبية إلى قُنة الهدوء، أحب أني رفيقة أحاديث أمي كما أنها أمينة صندوق أسراري، أحب أني أكثر إدراكًا بأن الحياة التي أريد تكمن غالبًا في الحياة التي لا أرتاح فيها.
في ربيعي هذا أتذكر أني كتبت في خريفي الماضي أن الحالة التي تأتي بعد صوت الرصاص تحكمها المناسبة؛ فإما الابتهاج من أجله أو الخوف بسببه أو الأسى نتيجة فعله. ثمّ رحت أراجع ما كتبت في دفتر أيامي وغزتنا في حربٍ بين شتائين حرصتُ خلالها على حمل لواء الكلمة، فقرأتُ على مسامعي حروفًا تحدثتُ فيها عن سر انحيازي للقلم والورقة باعتبارهما صكًا لحفظ الحقوق ونازعًا له، وطريقًا في عتمة التيه إن وقع الحق، وتيهًا في عتمة الطريق إن فُرض الظلم.
صيفٌ مضى وتجاربي الحارة تُعلمني أن وقت الإلهام حاسم، وأن تأخّر الاكتشاف لا يُلغي الوجود، وأن حديث الأرقام مُبهر، وأن أسوء الحسد ما كان من الممتلئ على الفارغ بفراغته، وأن تجهم القريب أشد، وأن الأبواب تظلّ موصدة ما لم تُطرق، وأن أعظم الانكسار ما كان مغلفًا بالبناء، وأن اليد الخفية هي إنقاذ الله لنا بالخبايا.
إن العيش بلا أهداف هو إقرار بالموت بلا أثر، وأن الحياة لا تهب إلا ما يشبهها من الأشياء المؤقتة، وأن المجريات تقتبس توقيتها من فناء الدنيا، وأن الدنيا لا تلد إلا الأحداث المستمرة إلى زوال
وأن الامتناع عن الرد أبلغ من الكلام أحيانًا حيث الصمت أبسط أنواع الفلسفة، وأن الدلالة أبلغ من الفورية، وأن العيش بلا أهداف هو إقرار بالموت بلا أثر، وأن الحياة لا تهب إلا ما يشبهها من الأشياء المؤقتة، وأن المجريات تقتبس توقيتها من فناء الدنيا، وأن الدنيا لا تلد إلا الأحداث المستمرة إلى زوال، وأن طريق الحرام أسهل رغم تجرده من التصريح.
وأن المنصب مسؤولية وليس مسمى، وأن أدرى الناس بالشيء أهله، وأن الرقي هي أن تبحث عن الهيبة في زوايا الانشغال، وأن فطنة المؤمن تكمُن في قدرته على تحويل الفضائل إلى عادات، وأن محاولة النسيان جزء من مرارة الألم، وأن القراءة الشاملة تحمي من الأخطاء، وأن القلم سحر لإذابة الفوارق، وقناة لرفع الصوت، ونصرة الحق، وطريقة لبلورة الرسالة.
وملخص لجليل المعاني، ووعاء للمشاعر، ومكبٌ لسفاسف الأمور، ومدينة الاحتواء للناطقين، وترجمة جليلة للفهم والتفهيم، ووسيلة لبث الحنان وانتزاعه، ثمّ وإن الوطنية علمتني أن شرف الانسحاب يضاهي وسم التفوق في حضرة غياب الاعتراف حيث الخسارة أكبر حين تحفّ بإهانة إلغاء الوجود.
لقد علمني السعي أن ابني مفترق للراحة بين السبل، وأن أخطط دون الاتكال على ما أدون، وأن تذكّر الدروس العابرة للتجارب واجب في حق نهضة المرء وراحته، وأن إعادة التفكير طريق لتذليل الأخطار، وهوان لهاجس التردد والندم المحفوف بالاندفاع.. فهمني السعي أن الدعاء رفيق الوصول في مضماره، وعلمني أن أشق الاختلاف حين ترتفع المنافسة على المتداول.
وأن أقدس صغائر الإنجازات وأن أضيف كل ضحكةٍ وجمعة لقائمة النعم، ولا أنسى أنه علمني ألا انسى أهل الفضل بعد الامتنان لله، وأن الأولويات تُلغي رحلة أهداف كاملة إذا حضر الواجب ابتغاء البر والرضا، أو لزم الفداء لروح العائلة والحفاظ على سلامة أحد أضلاعها.
أما الآن فأعيش شتائين من الحرب وأنا أصرخ ولا زال الصدى حبيسًا.. ما أشنع الواقع، ما أقصى الإنسانية، ما أقسى الشعور، ما أعظم الفاجعة، ما أزيف السياسة، ما أنجس العدو، ما أكدر الخيانة، ما أبسط الأمنيات، ما أبهت الحب، ما أشق اللقمة، ما أغرب العالم، ما أبكم العروبة، ما أقزم الطموح، ما أثقل التعاقب، ما أضنى الأيام، ما أمر اللحظة، ما أجفى الهدوء، ما أفظع اللوعة..
همني السعي أن الدعاء رفيق الوصول في مضماره، وعلمني أن أشق الاختلاف حين ترتفع المنافسة على المتداول
أيامٌ عجاف وفوهة الدخيل تهدد الحاضر والمستقبل بشهية مفتوحة نحو الحالمين والبراءة، لقد توحّش الموت على خلاف عادته في السلم حتى بات فاجرًا يرقد ويتربص ثم ينتهي في إصابة المقتل ويكتب نهاية نازفة أو يرسم النزف حتى النهاية، غريبة هذه الحرب.. جل الذين عرفناهم بالطيبة رحلوا خفافًا وأثقلنا رحيلهم، هدنة صارخة وصراخ بهدوء، أتوه في أسئلتي وأنا أتمتم "لقد متنا، ما فائدة ما نصنع؟!
ثمّ أتهاوى في يأسي وكأنها القيامة، فتتلو أختي على مسامعي حديث رسولنا الكريم "لو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها"، فأنهض استجابةً لمتسع الوقت رغم ضيقه، لأزرع سنبلة، لانتصر في قبلة اعتذار عن كل تقصيرٍ وأنا أحدّق في وجه أمي، ولأحلم بأن أنجب ولدًا يحمل اسم عمي وشمسٌ تكلل "أيلول" الميلاد باسمها.. أهرع وأنا أحرر مشاعري بالكلمات.
ثمّ أعافر وإن استسلمت إدراكًا مني بأن الانطفاء وليد الظرف وأن الإحباط نتاج ألمٍ مؤقت فلا أسمح بأن يكبح أملي، ولا أن يجتاح داخلي حتى يستقر على هيئة قنوط فأُهزم ونصيري على العرش استوى وبين يديه أمري كائن بقدرةٍ ورحمة.
لقد علمتني الحرب أن لا أقتصد في الفرح، وأن أبالغ في العطاء، أن أقاطع الكره، وأن أحفظ الوصال، أن التزم التقوى، وأن أتسلح بالقلم، وأن أصون القرب، وأن أفرط في الدلال، وأن أتشبث بالتكافل، أن أقبض على الثبات، وأن أغرس الوعي، أن أقدّم النية، وأن أتنحى الجدال، أن أغلّف المبدأ، وأن أتهادى الحب، أن استثمر المناسبات، وأن أزخر باللقاء.
أن أفيض باللطف، وأن أعيش المتعة، أن لا أضيّع فرص الحبور، وأن أقاطع الخصام، أن أقدّس العائلة، وأن أنثر الأمل، أن أتوكأ على الاستعانة، وأن أشدد بالمؤازرة، أن أتجاوز بالعون، وأن أحتضن الألم، أن أصادق الكتاب، وأن أذكّر بالرحمة، أن استحضر الثواب، وأن أتقوى بالآيات، أن أرتدي البهجة، وأن أتخفف بالبشرى، أن استجلب السعة بالإنفاق، وأن استدرك الفقد بالاسترجاع، أن اكتنز لحظات الود بالإحسان واحتواء الذكرى، وأن ألوح بالحمد، أن أغفو على الرضى، وأن استيقظ على القبول كي أحيا بسلام، وأنا أطلب الإنبات الحسن وأدرك أن النبتة لا تحيا في غير أرضها.
لقد علمتني الحرب أن لا أقتصد في الفرح، وأن أبالغ في العطاء، أن أقاطع الكره، وأن أحفظ الوصال، أن التزم التقوى، وأن أتسلح بالقلم، وأن أصون القرب، وأن أفرط في الدلال، وأن أتشبث بالتكافل، أن أقبض على الثبات، وأن أغرس الوعي، أن أقدّم النية، وأن أتنحى الجدال
لقد كبرتُ في مدار الزمن عامًا وفي عين الصبر أعوام، لقد غيرتني الحرب حتى طلقتُ هواجس الفقد فلا أكبر من أن نفقد ذواتنا، وكسرت قيد المخاوف بعدما اجتاح التغيير صندوق القناعات، تحررتُ من هيبة صناعة المستقبل وإن كان حلمي يتحصن خلف أسوار الطموح، أمارس محاولاتي وإن بلغ الزهد فيها ذروته.
أحاول إحياء قدسية العائلة قبل أن أحمل لواء التبجيل، أتخيل الفراق دائمًا فاحفظ الوصال والصلة بالحب حتى إن كان من صورةٍ أخيرة تكن على هيئة لحظة ودٍ تُكتنز في شريط الذكريات.. بقدر غرابة هذه الحرب يعتريني برد اليقين في أوج الاحتراق، تُنفَثُ بداخلي نفحات الفرح وأنا في قُنَّة الترح، أرضى وأنا في قمة القنوط، ابتسم والعين دامعة.
أركض وأنا كسيحة، أحلم بالسفر وأنا أراقب تطويق المدينة، أرى العمارة وأنا أعاين الخراب، أسعى وأنا تائهة، أرقب في الأفق شيئًا وأعيش خلافه، وربما أحيا وأنا ميتة، اتكأ على القلم وأُكثر فلا أُبقي في داخلي شيئًا حتى وإن كان في البوح خطأ فقد بتُّ أرى في بعض الأخطاء ضرورة التجربة، فمغامرةٌ تنتهي بالأسف خير من أن تظلّ حبيسة مقتلي أو مقتلًا لقلبي الحبيس.
لقد باتت الحروف عالمًا أوسع من مجرد مشاعر، وأعظم من فكرة التوثيق، هي بلاغٌ ورسالةٌ ورأس مال، قبل هذه الحرب كلًّا منّا كانت له حربه الخاصة، وكنت أعزّي نفسي دائمًا بالسلوان والأجر، ولكن هذه الحرب الطاحنة جاء الابتلاء فيها عام ولم يعد بوسعنا تلقف الأشياء أو أن نقفُها في وقتٍ لم نجد فيه من يوقفها.
أما عن اللحظات بعد الحرب -حين تذهب السكرة وتأتي الفكرة- فهي معاركٌ أخرى لا تقلّ ضراوة، ساحتها القلب، سيفها الذكريات، مقرها العقل، متكأها الصدر، سيدها الموت، عطرها مسك الراحلين، مسعفها القلم، وقد يكون دوائها على هيئة صورة، والخالد فيها صدقة جارية مقرونة بحسن الذكر قبل الإبداع في الرثاء.