بنفسج

ليل غزة: عتمة الظلم وضجيج الموت

الثلاثاء 01 أكتوبر

كيف ينقضي الليل في غزة
كيف ينقضي الليل في غزة

لطالما عُرف الليل بأنه رمزًا للهدوء والسكينة، يتغنى به الشعراء ويكتبون به أرق الأوصاف، ولكن في غزة مصدرًا للرعب والقلق. إن العتمة تتسبب في شعور بالاختتاق عند الغزيين، تضيق السماء بهم على اتساعها، وتصبح النجوم بنورها الخافت مدعاة للخوف، وفور ما أن تشق العتمة طريقها للسماء كل ليلة يقول الغزيين: "أجا الليل.. الله يستر ويجي الصبح ع خير".

في الليل تبدأ الهواجس بالنخر في الرأس ك "دبور" صغير، متمثلة ب "ماذا لو؟"، تمر الليلة على الغزيين وكأنها أيام طوال، فمن صوت الزنانة الذي لا يهدأ إلى رصاص الكواد كابتر الذي يخترق النوافذ، ورصاص طائرات "الأباتشي"، ويدور الغزيين في الحلقة ذاتها كل ليلة حتى صباح اليوم التالي، والمحظوظ من يستطع أن يسرق غفوة من الليل الطويل.

هنا نحكي مع فتيات غزيات خاصمن النوم في ليال الحرب الطويلة، وإن نمن يستيقظن مفزوعات على أصوات الغارات الشديدة، والرصاص، فماذا يعني الليل في حرب الإبادة الجماعية التي قتلت الآلاف من الغزيين، وماذا يعني أن تلاحقك الكوابيس إن سرقت غفوة قصيرة! 

انتظار بزوغ النهار

ليل1.webp
 

أمل الفراني فتاة غزية تقطن حي الشيخ رضوان الذي عاش الحرب بكل ويلاتها، دُمر على يد قوات الجيش الإسرائيلي، فأضحى ركامًا، فاستصلحت عائلة أمل بيتهم المتضرر وعاشوا به بعد انسحاب الجيش. تقول لبنفسج عن الليل الجارح في ليالي الحرب: "كان الليل بالنسبة لي ما قبل الحرب هو بداية الحياة، وللوقت الذي أمارس فيه عزلتي بعيدًا عن صخب العالم، أما الآن أضحى كابوسًا موحشًا، أخافه وارتعب منه، فالليل هو الرعب من المجهول والظلام والعزلة، والرعب الأكبر أنك تنتظر الأجل فيه".

لم تكن هواجس أمل تتوقف أبدًا خلال ليالي الحرب الطويلة، فتتملكها كوحش انقض عليها، وتبدأ سلسلة من الأسئلة لا تتوقف، تضيف: "ماذا لو قصفوا علينا البيت ليلًا وبقيت حية أصارع الموت تحت الركام، وأن أنتظر أحد لينقذني وأنا التي لا تحب الانتظار! هل سيغامر أحد ويخرج من منزله كي ينقذ أشخاص يجهل مصيرهم.

تخاف أمل أن تخونها الذاكرة يومًا ما فتنسى الإبادة الجماعية التي تعرضت لها رفقة 2 مليون ونيف غزاوي، تود أن تبقى بذاكرتها جيدًا حتى إن مد الله بعمرها تروي لأحفاد الأحفاد عن وجه "إسرائيل" المجرم الذي عايشته بحذافيره، فماذا يشعر المرء وهو بالقرب من خط الموت المحقق؟

 أذكر جيدًا بأننا وصلنا لمرحلة مؤلمة حيث كانت تدمر البيوت فوق رؤوس ساكنيها دون أن يجرؤ أحد من الجيران أن يخرج رأسه من شرفة منزله ليرى ما حدث، فقط كنا نكتفي بمعرفة اسم العائلة التي تم قصفها، وفي الصباح تبدأ عملية البحث وانتشال الشهداء الذين كان من الممكن أن يكونوا أحياءً ولكن تأخُر البحث عنهم أودى بحياتهم".

تخاف أمل أن تخونها الذاكرة يومًا ما فتنسى الإبادة الجماعية التي تعرضت لها رفقة 2 مليون ونيف غزاوي، تود أن تبقى بذاكرتها جيدًا حتى إن مد الله بعمرها تروي لأحفاد الأحفاد عن وجه "إسرائيل" المجرم الذي عايشته بحذافيره، فماذا يشعر المرء وهو بالقرب من خط الموت المحقق، أمل تخبرنا أنه لو عاشت العمر كله تحكي فالحديث لا يسع لكل هذا الألم الذي عايشته، سيظل الوصف نقطة في بحر ما رأته.

في 24 ديسمبر/كانون الأول، حوصرت أمل رفقة عائلتها وأقاربها إذ كانوا 30 شخصًا في بيت واحد، فسمعت في هدوء الليل أزيز الطائرات القريبة، أما صوت آليات الاحتلال فقد توقف بشكل مؤقت، فظنت أنهم انسحبوا من الحي، فظلوا يناجون الله طوال الليل بالنجاة، يدعون أن يأتي الفجر سريعًا ليشق العتمة، ولكن بعد ساعة من الهدوء الحذر، باغتتهم الآليات الإسرائيلية بصوتها المرعب، والتي وصفتها أمل ب "خفافيش الليل".

تكمل لبنفسج: "تأهب واستنفر جميع من بالمنزل في طرفة عين وتجمع قرابة ال30 فردًا في غرفة واحدة بعيدة عن الموت إلى حدٍ ما، حتى بزغ صباح اليوم التالي ونحن آمنين، وفي ليلة الحصار الثانية  لم أنسَ حينها كيف خرجنا من الغرف المطلة على الموت زحفًا خوفًا من أن تطالنا رصاصة طائشة من رصاصات قناصيهم الذين كانوا قد انتشروا مسبقًا على أسطح البنايات المرتفعة، وبتنا ليلتنا نسأل الله النجاة معًا أو الموت جميعًا مرة واحدة! حتى أشرقت شمس اليوم التالي حاملة معها شعاع أمل بالنجاة المؤقتة".

هواجس الليل الطويلة عند الغزيين

ليل2.jpg

ماذا عن الليالي التي لا تُنسى من دفتر الحرب الطويلة؟ تجيب أمل، "ليالي الحرب كلها مؤلمة، أذكر حين كنا في مرمى أهداف القصف المدفعي العشوائي، استيقظنا فزعين والحجارة تتطاير فوق رؤوسنا والغبار والأتربة قد أغلقت مجرى التنفس لدينا، وبدأنا نشعر بالاختناق وأن الموت أقرب إلينا من أي وقت مضى، لكن لا زلنا نبحث عن الحياة من قلب الموت.

 خرجنا هلعين نحمل وجعنا في قلوبنا وبعض أمتعتنا وأرواقنا المهمة التي اختزلت جميعها في "شنطة" خاصة بالنزوح، وأنا كنت أدعو الله دومًا إن كتب لنا النزوح أن يكون نهارًا ونحن مبصرين".

لم تعتد أمل صوت الزنانة ولا أصوات الغارات العنيفة، وما زالت تسهر لياليها وهي تنصت لصوت الزنانة تسأل وتفكر: "على مين الدور في الموت اليوم"؟ ماذا إن كنا نحن الهدف في تلك الليلة هل سنموت جميعنا، أم هل سأفقد أحدًا من أفراد عائلتي، أم سأصاب وأفقد أجزاء من جسدي، أو أن أكون الناجية الوحيدة في العائلة

على الرغم من مرور عام على حرب الإبادة الجماعية، لم تعتد أمل صوت الزنانة ولا أصوات الغارات العنيفة، وما زالت تسهر لياليها وهي تنصت لصوت الزنانة تسأل وتفكر: "على مين الدور في الموت اليوم"؟ ماذا إن كنا نحن الهدف في تلك الليلة هل سنموت جميعنا، أم هل سأفقد أحدًا من أفراد عائلتي، أم سأصاب وأفقد أجزاء من جسدي، أو أن أكون الناجية الوحيدة في العائلة وأنا لا أقوى على ذلك أو أن نبقى تحت ركام المنزل حتى تتحلل أجسادنا".

تنهي حديثها لبنفسج وهي تعلن كرهها التام ل ليالي الحرب الحارقة وتقول "كل ليلة لا أكف عن الأسئلة وتخيل السيناريوهات وأظل على هذا الحال حتى أتخطى مرحلة الخطر بشكل مؤقت ليعاد نفس السيناريو في الليلة التالية".

جدول النوم قبل بدء الليل

ليل3.jpeg

أما هبة لم تختلف هواجسها كثيرًا عن أمل، ولكن ما يزيد قهرها في ليالي الحرب أنها تقطن بخيمة بجانب مكب للنفايات، ما جعل الليل بالنسبة لها كابوسًا مروعًا، إلى جانب الغارات العنيفة تحارب الحشرات والباعوض الذي لا يتركها وشأنها، إن سكن صوت القصف وأخذت غفوة قصيرة لا يسكن الباعوض أبدًا، نزحت هبة من حي التفاح شمال غزة إلى الجنوب، وتنقلت في طريق النزوح 6 مرات على الأقل.

تقول: "اشتقت كتير لليالي الهادئة اللي بقضيها على دراستي، نفسي كتير بليلة من أيام زمان هادية، بدون قصف بدون رصاص". تخبرنا هبة عن ليلة من الليالي المعتمة التي لن تنساها في حياتها، كانت تنزح في بيت عمتها وإذ بالجيش الإسرائيلي يتصل عليهم لإخلاء المنزل على غير عادته، بالعادة يقصف البيت على رؤوس ساكنيه، فخرجت هبة برفقة أكثر من 30 شخصًا كانوا يحتمون بالمنزل، وما زاد الأمر صعوبة جدتها التي ساءت حالتها الصحية جدًا وقتها.

تردف لبنفسج: "يبدأ القصف المكثف بعد الساعة العاشرة، فكنا ننام قبلها وبمجرد أول غارة نستيقظ ونبقى طوال الليل خائفين من أن تطالنا الغارات، أو تخترق الخيمة رصاصات الكواد كابتر، منذ بدء الحرب ونحن نقضي الليالي كلها ننطق الشهادتين، فمن الممكن أن تكون تلك الليلة ليلتنا الأخيرة". صارحتنا هبة بكرهها لليل وللحياة والكوكب بأكمله، لا تولج لمواقع التواصل الاجتماعي، حتى لا يصيبها القهر وهي ترى نجاحات من هم خارج غزة وهم يواصلون حياتهم بشكل طبيعي، بينما هي هنا تصارع الموت، وفقدانها لأحلامها التي أضحت في زمن الحرب مستحيلة.

بالعودة للنزوح في الليل، تقول: "بابا كل ما يكون في خطر بمكان بخلينا ننزح بالنهار أفضل لأنه عارف خوفنا من العتمة، فدايما كان يستبق الأحداث ونطلع قبل ما تصعب الأوضاع، وما بتمنى أبدًا أجرب النزوح الليلي بكفينا الرعب".

رصاص طائرات "الاباتشي" الليلي

ليل4.webp

أما ريما محمود التي تسكن في مخيم النصيرات، خاصمت الليل تمامًا بعدما كانت من محبيه والمتغنين به، فتقول لبنفسج: "منذ بداية الحرب وأنا أخاف جدًا حين تعلن السماء انطفاء نورها، أعلم أن الليلة بيئة خصبة للجيش الإسرائيلي للقصف وإزعاجنا، فمن رصاص الكواد كابتر إلى الغارات الشديدة التي تهز المنزل.

 ومؤخرًا بدأ الجيش باستخدام رصاص طائرات الأباتشي وتوجيهيه نحو البيوت، ما يصيبني بالرعب، فشكل الرصاصة كبيرة جدًا وكافية أن تقتل إنسان". ماذا عن المواقف الليلية التي لا تنسيها؟ تجيب: "قبل ما يقارب الأسبوع سمعنا صوت رصاص الكواد كابتر ينطلق نحو بيوت المخيم، كنت نائمة واستيقظت على صوته وهو يضرب بجدران المنزل من الخارج، وإذ بصراخ يتعالى من خارج الغرفة.

 فأركض فأجد أن عمتي خدشتها الرصاصة التي دخلت من النافذة، حقيقة لا أعلم حتى اللحظة كيف حماها الله ولم تدخل الرصاصة في قدمها بالكامل، يومها لم أنم باقي الليل وأنا أتخيل الرصاص يدخل لنا من كل النوافذ". لم تكن تلك المرة الوحيدة التي لا تنام فيها ريما، فمنذ تعمد الاحتلال إطلاق رصاص طائرات "الأباتشي" على بيوت المواطنين في النصيرات، وهي تخاف أن تنام ولو لساعة.

 في مرة غلبها نومها وإذ بصوت رصاص مرعب يغزو سطح البيت لم تعرف لأين تهرب سوى أنها ركضت وعيونها مغلقة نحو الطابق السفلي، فسمعت صراخ الجيران وهم يصرخون، فمنهم أصابه الرصاص بشكل مباشر. تختم  ريما حديثها لبنفسج: "لو تسأليني شو نفسك رح اقلك نفسي الدنيا ما تعتم ما يجي الليل، بجن جنونهم علينا بالليل بشكل مرعب، بخاف العتمة صرت وما بتحمل أي صوت عالي".