"عمو فريد استشهد".. لم تتوقع أن يكون هو، ثم أدركت وقالت: "مين عمو فريد". فقيل لها: "أبوكي يا رولا البقاء لله". فأصابتها قشعريرة شديدة، ارتجفت وأشعلت الضوء لتستيقظ زميلتها روان وأخبرتها بالخبر وهي غير مدركة لما يجري، أخذت هاتفها وأجرت اتصالاتها ثم عادت للابنة الفاقدة لتقول لها: "البقاء لله".
بعدها أدركت رولا أنه لم يكن حلمًا وأن والدها ارتفع شهيدًا في غزة، شعرت نفسها صغيرة جدًا أمام هذا الموت الذي يخطف الأحبة، وما زالت بحاجة والدها حتى في الخمسين من عمرها. كان اختبار الفقد اختبارًا قاسيًا على قلب رولا، امتُحنت أولًا في صديقتها أو كما تحب أن تصفها "قرينة الروح" حنان عياد، ثم في أبيها، عاشت الألم مضاعفًا في اغترابها لوحدها، فبكتهم وحدها، واحترق فؤادها عليهما.
تحكي هنا الصحافية رولا درويش المغتربة في إسطنبول عن فقدها للوالد وصديقتها المقربة، عن الأحاديث الأخيرة، والذكريات، عن الوجع الذي لا يزول.
فقد الأب
لم يكن أب رولا أبًا فحسب بل كان صديقًا لها، تصفه بأنه "السند والأمان، تلقت خبر استشهاده بصدمة، فعاشت مرار البعد في حضرة موت سندها، تقول عن يوم تلقيها الخبر: "وصلتني رسالة من مها ابنة عمي أنها ستقول لي شيئًا، توقعت أن يكون خبرًا لاستشهاد أحد من العائلة الممتدة، لكن لم يخطر ببالي أن يصيب أهلي مكروه أبدًا.
غابت ثم كتبت على المجموعة التي تضم أفراد من عائلتنا "عمو فريد استشهد"، فكرت جيدًا، لا أحد اسمه فريد بالعائلة أبدًا سوى والدي لكن مع ذلك لم أتوقع أنه أبي، فقلت لها: "مين عمو فريد"، قالت: "مالك يا رولا ابوكي استشهد البقاء لله الله يكون بعونك". لم أدرك أبدًا ما الذي تقوله أهو أبي!".
في حديثها مع ابنة عمها سألتها كيف ومتى وأين، قائلة: أنا أبويا برفح.. فش إشي برفح". فأجابتها أنه استشهد بعد تناوله طعامًا من طعام المساعدات التي تأتي لغزة، رمت هاتفها مكانه ثم أشعلت ضوء الغرفة فاستيقظت صديقتها بالسكن لتسألها ما بها! لتجيبها: "بحكولي أبوكي استشهد". فأخذت هاتفها لتتحدث مع أقاربها ليؤكدوا الخبر، واستها، ثم بقيت رولا مغمورة في حزنها وحالة الإنكار التي أصابتها.
قبلها بفترة وجيزة تحدثت رولا مع شقيقتها رانيا لتسألها عن الأحوال وعن رمضان، وكيف يعيشون وماذا يأكلون! وفي سياق الحديث سألتها رولا: "بتاكلو لحمة". ردت شقيقتها بالنفي. فأخبرتها أنها سترسل مبلغًا من المال لتشتري لحمة أو دجاج بجانب المفتول الذي يحبه والدها، لكن استشهد الأب قبل أن يتذوق الطعام الذي يحبه وظل محرومًا منه لأشهر طوال، مما أوجع قلب رولا فبكت وهي تحكي الحدث.
تروي رولا أنه والدها كان يُنادى بأبو أحمد وأحيانًا أبو صلاح، جلس معها طويلًا ليحدثها عن بطولاته ضد الاحتلال في القدم، وكيف كان يُصنع المولتوف، وحبس عند الاحتلال لمدة 6 أشهر في الزمن القديم، فكانت تسعد بكل حكاياته.
بالعودة إلى ليلة استشهاد الوالد تضيف رولا: "كنت بقلب بالصور وبعيط، وبشوف صور حنان عياد صديقتي الشهيدة، وتفرجت على فيديوهات عيلتي وأنا برضو بعيط، كنت حاسة جبال الدنيا على نفسي، نفس الشعور يلي اجاني يوم استشهاد حنان اجاني يوم استشهاد أبويا".
قهر المغترب
كان اغتراب رولا ضربة قوية لها في الحرب، فتمنت أنها لو كانت حاضرة في حرب الإبادة الجماعية ولا يشتعل قلبها قلقًا على الأهل الذي نزحت من شمال غزة للجنوب، فتفرقوا، ظل والدها مغ شقيقاتها الاثنين في رفح، ووالدتها وباقي العائلة في المحافظة الوسطي، فتتابع أخبار المكانين، مما سبب لها عبء إضافي، في الشهر الأول للعدوان كان تواصلها مع والدها على الدوام، ثم انقطع الاتصال لأشهر، فلم تسمع صوته ولم تشاهده عبر الفيديو أبدًا.
من يوم الحرب بطلع من مرض لمرض صابتني حساسية غير معروف سببها، ونقص بالحديد وبفيتامين دال، ووجهي باهت وبه هالات سوداء، أنا بعرفش أنا لما أنام بتجيني كوابيس
في 21 مارس/آذار2024 حدثت رولا نفسها: "لو تصير معجزة واكلم إمي وكان يومها ذكرى ميلادي". وبينما هي منهمكة بالعمل وجدت حساب والدتها عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في حالة "نشط الآن"، لم تصدق عينيها وعادت لعملها لكن سرعان ما قالت لنفسها: "سأجرب أن أرسل لها". فكتبت: "فاتحة أنتِ". جاءها الرد على عجالة: "اه يما فاتحة.. اليوم عيد ميلادك كل عام وأنتِ بخير".
تضيف: "أكملت حديثها معي وأنا أبكي ثم طلبت منها ان تفتح فيديو، لكنها رأتني أما أنا لم أراها، فقلت لها: "يما دبري كشاف بدي اشوف زمان ما شفتك، طب ع ضو القمر روحي، فردت: "يما بخاف الكواد كابتر بتلف بقدرش اضوي"، ثم أضحت تحكي لي عن شكلي المتغير بفعل الهم، وقالت: "هو الحرب عنا ولا عندك.. سيبك منا".
تؤكد رولا أن كثير من الناس تعتقد أن المغترب يعيش بجنة لا حدود لها، نجى من هول الحرب، لكن أبدًا فالهم طالهم كما أهل البلاد وأكثر، فتقول: "من يوم الحرب بطلع من مرض لمرض صابتني حساسية غير معروف سببها، ونقص بالحديد وبفيتامين دال، ووجهي باهت وبه هالات سوداء، أنا بعرفش أنا لما أنام بتجيني كوابيس".
إن آخر ليلة رأت رولا فيها وجوه العائلة كلها في مساء السادس من أكتوبر، كانوا يحتفلون بعيد ميلاد شقيقها صلاح الدين، فكانت ابتسامتهم سيد الموقف آنذاك، في صباح اليوم التالي استيقظت على اتصالات من عملها تخبرها ما جرى بغزة، فحادثت أهلها لتطمئن، فأخبرتها والدتها أنهم يأكلون المحشي، وأن لا تقلق عليهم. ومن يومها وحتى الآن تعيش رولا في خوف وهلع وهي تتابع الأخبار.
قرينة الروح شهيدة
لم تفقد رولا والدها فقط بل فقدت أعز أصدقائها والتي كانت تصفها ب "قرينة الروح"، 16 عامًا من الصداقة عاشتها مع حنان عياد، التقيا في المسجد، فبدأ تعارفهما بعراك ولكن لم يكن يدركن أن وراء المنازعة تلك سيكون حب كبير وصداقة تمتد حتى الرمق الأخير.
فتقول رولا عن حنان: "حينما تلقيت خبر استشهادها كنت في درس اللغة وصلتني رسالة من صديقة تقول لي "حنان عياد استشهدت"، خرجت مسرعة لاتلقى اتصال بالفيديو منها فسألتها: "مين حنان"! فخرجت صرخة مني فخرج الطلاب والأستاذ على إثرها، وقع هاتفي مني، فنزلت أركض على الدرج بدون أغراضي لا أعلم لأين أذهب ولكني أسير".
أنا لما ببكي ما ببكي أبويا وحنان بس ببكي ٢ مليون ونص غزواي كلهم أهلي!
علمت رولا لاحقًا أن صديقتها اُستشهدت وهي ذاهبة لبيتها في حي الدرج لتجلب ملابس لأولادها رفقة زوجها وقريب له، تضيف: "صارت القذائف تنزل على محمد زوجها اتصل أخوها الكبير بهاد الوقت، صارت تقلو أنا بموت ومحمد بموت.. أولادي أمانة برقبتكم، وأنا حسب ما فهمت أنه كان معهم ولد قريبهم الشاهد على القصة حضنته حنان لتحميه هما ماتوا وهوا عاش، أنا لليوم بحاول اتواصل مع الولد لأفهم منه شو صار بالضبط".
بالعودة لما قبل الحرب تروي رولا أن حنان حكت لها عن حلم حلمته قبل الحرب بشهر، رأت نفسها تمشي بشوارع تشبه مدينة القدس، تكمل: "أخبرتني أنها رأتني في تلك الشوارع بحقيبتي على ظهري فاحتضنتني وقالت لي هيا لنصلي في القدس، وحدثتني أن زوجها أخبرها أنه فسر الحلم قائلًا: "شكلو هيصير حرب تحرير"، وحينما اندلعت الحرب راسلتني وذكرتني بالحلم".
تختم حديثها: "أنا لما ببكي ما ببكي أبويا وحنان بس ببكي ٢ مليون ونص غزواي كلهم أهلي".