بنفسج

عام مرّ وما انتهى فينا من مُرّ

الأحد 27 أكتوبر

عام على حرب غزة
عام على حرب غزة

عامٌ مرَّ، ومرت معه (موهبة الأمل) وانتهت. نتذكر فيه صباح السبت، وبداية الحرب، وشمس ذاك الصباح الذي لم تطلع من بعدها شمسٌ أخرى على غزة، وأهلها. كانت نهاية الهدوء القلق، والروتين الذي فقدنا نعيم ملله، ولذة ساعاته، وأيامه، جحدنا لحظاته فجدنا العام كله من بعده، وأرخى علينا ستائر سميكةً قاتمة، وضربت جدراناً من نار، ودمار دقت أساساتها في الأرض.

انتهت حياةُ الأطفال في المدارس، ومواعيد طابور الصباح أصبحت ذكرى، والسادسة والنصف، لم تعد توحي بشيءٍ سوى أنها إحدى ساعات الانتظار أمام طابور تعبئة الماء، أو دورك في آخر طابور الخبز؛ لأن غيرك أخذ دوره في المقدمة منذ ثلاثِ ساعات

 وطوقت غزة بكل من فيها، وما فيها؛ لتضرب معها حصاراً فوقه حصار، تجثو فيه إسرائيل بقوائمها على صدورنا؛ فتمنع معه التحاق أنفاسنا بأجسادنا، لتحشر أنفاسنا بين أفواهنا الشاهقة، وحناجرنا الناتئة حواصلها؛ فنصبح عبارة عن أنبوب تنفسٍ ضيق، يتحشرج فيه الأمل، ويخرج على هيئة عطاسٍ من ضبابٍ وهمي.

نشعر في خضم هذه الأزمة أننا عبارةٌ عن أجسادٍ ماديةٍ ثقيلة، تنفلت منها الروح، ويضيء القلب معها بنور الحكمة، والزهد، والتقشف من الحياة، والدنيا، هرباً من مادية الجسد، في محاولةٍ للهروب من سجن الموت، والدمار، تمسكاً بالإيمان الذي يسخر من الأمل، ولسان حاله يقول: ما أنت إلا بضعٌ مني، إن وجدتُ أنا وُجْدتَ أنت، فإمكانية ظهروك، وطفوك على قلب هذا الكائن (الإنسان) ممكنة، وإن لم أوجد فأنت فكرة الملحدين في نشأة الكون، وانعدام الآلهة!

عامٌ مرِّ، وغزة مليئة بالموت، والتشرد، والنزوح، والجوع. عامٌ مرَّ والأيامي واليتامي، والثكالى بازدياد لا ينضب، عامٌ مرَّ علينا كحصادة الحقل الآلية، تحصد من عليائها، وتكبرها كل السنابل، والقمح، دون أن تراعي نزيف دمائنا، عامٌ مرَّ ورؤوسنا تحصد في غير وقت قطافها، وتُصْطادُ فيه أجسادنا في صيدٍ جائر غير شرعي.

 عامٌ مر باقتلاعنا من بيوتنا، ودنيانا قبل نهاية صلاحيتنا، أو إعلان انتفاخنا ففسادنا. عامٌ مرَّ، ضاعت فيه آمالنا، وانتهت فيه أحلامنا، وما انتهت صواريخهم، وآلة الموت خاصتهم، ولا انضَّب فيه حقدهم. عامٌ مرَّ وذواتنا فيه اختفت، وانصهرت.

 أكل منا الجوع، والعطش، والمرض، والنزوح، والغلاء ما أكل، فوضى عارمةٌ نحياها، تناحرٌ بين العوائل، تخليص ثاراتٍ قديمة، أخال أن ثأر المهلهل أخذ في أيامنا هذهِ أيضاً. أحلامنا تتساقط كما الماء يتساقط من الخباء، في يومٍ حزيراني لاهب، لا هو يسقي الأرض، ولا هو يّطفئ حرارتها، وشهور انتهت وطويت معها آخر آمالنا وأمنياتنا في الحلم بالعودة، أو الأمان، وانتهت معه خيباتنا، وتكدست انتكاساتنا المهملة على رفٍ اغبَّر من عدم النظر إليه، تسربت فيه أحلامنا كما تتسرب الرمال الناعمة من بين أصابع اليد، وتنفلت في الهواء، منتثرةً في الفضاء. 

عامٌ مرَّ، وهروبنا من ذواتنا قائم، وتصورنا لهياكل مدننا القديمة، وشوراعها في عقولنا لم يّمحَ،  أو يمسح. وشهداؤنا الذين راحوا ضحيةَ الوحشية أراهم في دروب، وطرق عودتهم لبيوتهم قافلين راجعين، يضحكون، ويتمازحون مع الجالسين في الطرقات، يحيون الباعة، والأصدقاء، ولكنهم من فرط شفافيتهم، وألقهم لا يُلْمَسون، ولا يبينون، كمزحةٍ، أو دعابة لطيفة يمرون، فيضحك لهم الهواء.

 وتبتسم لابتسامتهم السماء فتمد الشمس من أُنسها بهم خيوطها الذهبية، وأشعتها على الأرض: يوسف، ورفعت، وهشام، وموسى، وعاهد، وهبة، ياسمين، وسجى، ونعمة، وخالد، والكثير الكثير، كانوا بيننا أحياء يتنفسون، منبهرين، لا يعلمون ما ستؤول إليه أحداث (السابع من أكتوبر)، لم يعرفوا آنذاك أنهم جزءٌ من وقود هذه الحرب المستعرة.

 كانوا هم الحطب الذي ضمن استمراريته، وتطاول أسلنتها، عامٌ مرَّ والأسرى في السجون مكبلين بالحديد مصفدِين من الأطراف كلها، معصوبي الأعين، خلف القماش الثخين المشدود عن آخره، بطريقةٍ تكاد تخرج معها قرنيةّ العين، وبؤبِئِه، يستسلمون للحلم، وكأنهم يلعبون الغميضة من وراء العصابة السادية، يخبؤون أعينهم خلفها، حتى لا تنفلت منهم أحلامهم، وتسيل أمام الجنود.

 فتشذي المكان بعطر آمالهم، وأحلامهم، ويتنفسون، فتطالهم ركلةٌ متعنتةٌ من بسطارِ إحدى الجنود، يأمره بدفن أحلامهِ بالأرض، ووئدها، وقد يحدث كثيراً أن يُسحب، ويُجرَّ إلى غرفةِ التعذيب فقط لأن رأسه ارتفع قليلاً عن بعض الرؤوس في محاولتهم لاستئصالِ الحلم أو إجهاضه.

عامٌ مرَّ منذ آخر حذاءٍ اقتنيناه، وابتعناه، عامٌ مرّ وأحذيتنا القديمة ضربت فيه مثالاً بأنها من أوفى الأوفياء، ساندتنا، وحمت أقدامنا رغم اهترائها، من الشظايا المتناثرة بفوضى على الأرض.

الخيام أبلاها الصيف، والشتاء، هذا يُمطِر فيثقُلها بمائه، وذاك يسطع بكل حرارته ولهيبه على سطحها، وجوانبها فيوشك من فرط غروره يُذِيبها، فيأتي الخريف كوسيطٍ يُريد ألا يفسد للود قضية، ويقدم حلاً يرضي كلا الطرفين؛ فيرسل رياحه ليخفف حرارتها، أو ينشف ابتلالها بالمطر، فيقتلعها بأوتادها من أرضها من فرط رياحهه، وثموديتها، فيسأله الربيع معاتباً.

 أهكذا حللتها أيها الذكي؟ يجيبه: وما ذنبي إن كان هذا الغزِّيُ نازحاً، لقد ضُربت عليه المشقةُ، والتعب، ولكنهم رغم هذا لا يستسلمون، ولا ييأسون، بل تترتفع أكفهم عالياً، يتضرعون لربهم بالدعاء، أن يخلصهم، ويخفف عنهم ما هم فيه!

انتهت حياةُ الأطفال في المدارس، ومواعيد طابور الصباح أصبحت ذكرى، والسادسة والنصف، لم تعد توحي بشيءٍ سوى أنها إحدى ساعات الانتظار أمام طابور تعبئة الماء، أو دورك في آخر طابور الخبز؛ لأن غيرك أخذ دوره في المقدمة منذ ثلاثِ ساعات. وبدل أن يحمل أطفالنا حقائبهم المدرسية على ظهورهم، حملوا قوارير الماء بثقلها بأكفهم، وسواعدهم الصغيرة.

 وبدل أن يُقدم لهم الخبز الساخن في أوج الشتاء، وبرده مع مشروبٍ ساخن، يقفون بأقدامٍ عارية، وأسبالٍ باليةٍ على طابور العويل، والمهانة.
وبدل ان يأخذوا مصروفهم، وينطلقوا به إلى الدكان متحمسين، مشغولي التفكير بما سيبتضعون، تراهم بين الزحامِ ووسطه، وبين الأجساد الكبيرة، متمسكين بأواني الطعام، ولكأنها قطعةٌ من قلوبهم يخافون ضياعها، أو انسكابها.

إنجازاتهم، وفرحتهم بالحياة أصبحت في: الحصول على سُكبةٍ أو اثنتين من تكية الطعام المارقةِ يوماً، والغائبةِ دهراً، وإيجادُ أثرها بعد بحثٍ مضنٍ طوال النهار إثروإيجادُ أثرها بعد بحثٍ مضنٍ طوال النهار إثر إجتماعٍ مصغرٍ عقده الصغار؛ ليتفرقوا بحثاً عنها، والتبليغ في حال مشاهدتها، ومن ثم أخذ كل منهم وعاءهُ للحصول لعائلته على بعض الطعام.

يفرحون باقتراب دورهم في طابور الخبز، ويشعرون بالنشوة، وقرب الفرج، وتكون تلك الخطوات القصيرة الصغيرة أفضل الخطوات، وأسرعها كلما ساروا خطوةً أو اثنتين باتجاه بائع الخبز. انتهت البرامج التلفزيونية الكرتونية، من مشاهدات أطفال غزة، فقد فرضت عليهم مشاهد سادية، ووحشية بواقع لا تضاهيه، أو تجاريه أي شركة في جودة صناعتها!

وأصبحوا يمتلكون مصطلحاتٍ جديدة بثتها الحرب بأيامها: (الكواد كابتر، وصاروخ 35، والمجنزرة، والدبابة، والمدفعية) أبطال الشخصيات الكرتونية تغيروا في واقع أطفال غزة فقد حلَّ محلهم: (أبو عبيدة، والمقاتل الأنيق) والشخصيات السيئة باتت ظاهرةً بقبحها للعيان فرمز الشرور والشيطنة هي: (إسرائيل وأختها الربيبةُ مثلها أمريكا) وزعيم الشر هو: (نتنياهو، وبايدن وكل هامانٍ يؤازرهما) وسحر الشر متطايرٌ مستطير، يجاهد الخَيِّرون لتبديده، ومحوه. 

ينظرون للطائرات في السماء، وهي تكاد تقتلع رؤوسهم بشفراتها الحادة، هذه: زنزانة، وهذه الهيلو كابتر، وهذه الكواد كابتر، وتلك طائرة المساعدة لا تقصف، ولكنها برشوتاتها تسقط على الناس فتقتلهم بدل أن تساعدهم مرفوعٌ عنها القلمُ؛ لجهلها وعماها وتارة أخرى ترميها بالبحر، بعد أن التقطت لها صوراً طائرة عمياء هوجاء أخرى تحلق بجوارها، ترى لو كنا مواطنين أوروبين لانقشعت غمامة اللامبالاة عنها، وأسقطتها مع شريط أحمرٍ كهدية لائقةٍ في مكانٍ جيد.

عامٌ مرَّ. والغُيَّاب عن بيوتهم، وأحيائِهم كُثُر، لا الحديقة بقيت في مكانها، ولا أسوارها الناعمة بقت تحاوطها، وأشجار الزيتون المقتلعة لا زالت تنزف، والبيت الخائف من هلاكه من فرط خوفه يحتضن نوافذه. يرتعدُ، ويرتجُ فترتجُ معه المناضدُ، والطاولاتُ، والأبواب الداخليةُ، و الستائر، يكادُ يخرج هارباً من نفسه إثر خوفه، فيلقي نفسه في الشارع لاهثاً تتصبب من جنباته حباتُ العرق ناضحة.

 فيلقى دبابةً مصوبةً مدفعها تُجاهه، فيركض مذعوراً لا يلوي إلى شيء، يتفقد جيبه فيجد أن مفتاحه قد سقط من جيب نافذته، يقفُ حائراً أمام بابه، تهطلُ صواريخٌ في الجوار، فينفتحُ بابه عنوة، فيسقط داخله، ويوصد بابه على نفسه... عامٌ مرَّ، وما انتهى ما فينا من مُرْ