أن تكون صحفيًا في غزة وتغطي حرب الإبادة الجماعية التي لم يُر مثلها في تاريخ الحروب، يعني أن تحمل روحك على كفيك، وحزنك، وشوقك، وألمك تضعهم جانبًا، وتكمل واجبك المهني والأخلاقي تجاه وطنك، أن تواجه الموت من مسافة صفر، وتكون مرغمًا على البقاء لأن ضميرك الإنساني لا يسمح لك بالتوان عن الحديث وإنتاج القصص الصحافية لتحكي للعالم ولكل المشاهدين أن هنا أُناس من غزة يقهرون ويقتلون على البث المباشر فهل من مجيب! ومهما خُذلت ويأست من التحرك العالمي تواصل التغطية الإخبارية.
بنفسج يستضيف الصحافية نور السويركي لتروي لنا عن أصعب القصص التي أنتجتها في حرب الإبادة الجماعية، ولتحكي عن النزوح الذي يُفقد المرء كرامته الإنسانية، وعن أولادها الذي قامت بإجلائهم خارج غزة، لتستطيع مواصلة التغطية.
الصحفية نور السويركي: التغطية متواصلة
الصحافية نور التي تعمل كمراسلة لقناة الشرق الإخبارية، لم تتوقف ولو ليوم واحد خلال العدوان الإسرائيلي عن التغطية، نزحت من مدينة غزة إلى جنوبها، فكانت في خانيونس ثم انتقلت مجبرة لرفح ثم مرة أخرى لدير البلح، حتى استقر بها المطاف في خيمة للصحفيين في مشفى شهداء الأقصى بدير البلح.
فتقول لبنفسج: "أبدأ يومي بالتغطية الإخبارية على الهواء مباشرة، ومن الممكن خلال اليوم أيضًا أن يحدث حدث طارئ يستدعيني للتغطية فورًا من جديد، فالصحافي في الحروب وقته ليس ملكه أبدًا، وغالبًا استيقظ ليلًا على صوت انفجار أو خبر ما، فأركض لارتداء ملابسي فورًا وأحمل المعدات الصحافية وأبدأ تغطية الحدث".
تعيش نور كنازحة وتصف حالة النزوح بأنها الحدث الأصعب في حياتها والتي ندمت عليه لاحقًا، "ياريت موتت بالشمال ولا طلعت حسيت بالعار وأنا طالعة كأني بطعن البلد". فيما تحكي عن الخيمة بأنها غير صالحة للحياة ومهينة للكرامة الإنسانية، فكان العبء عليها مضاعفًا أن تعمل وتشاهد بعينيها أصعب المشاهد، وتكون مستمعة جيدة لضيوف قصصها الإخبارية، وأن تحمل هم الحياة في خيمة بالإضافة لشوقها لغزة ولبيتها الذي أضحى ركامًا، ومع أنها خسرت كل شيء في غزة إلا أنها تصر على العودة قائلة: "هنعمرها".
نحيب الأمهات: أصعب ما رأيت
وبما أن نور تبقى في المستشفى لأغراض التغطية الإعلامية؛ فإن الألم النفسي عليها يكون مضاعفًا،يسرق النوم من عيونها، فهي تستمتع عن قرب لصوت الموجوعين من أهالي الشهداء والمصابين، فتضيف: "أصعب شي بتعرض الو في مكان نزوحي هوا سماعي لأصوات الأمهات التي تنتحب على أولادها الشهداء، دايما كنت بسمع صوت الأمهات وهم ببكوا طوال الليل، بشوف الجنازات وهي بتطلع من المشفى، صعب عليا تحمله لكن هذه حياتنا بكل أرجاء المدينة موت وخراب".
ماذا عن الموقف الأصعب خلال عملك؟ تجيب نور: "أعددت قصة صحافية عن طفلة صغيرة ونحن بالمجاعة، فأخبرتني الطفلة أنهم يأكلون من التكية وإن لم يزيد طعام منها لتناول طعام العشاء، تظل جائعة لليوم التالي حتى يأتي موعد التكية من جديد، وقالت إنها لا تستطيع النوم من جوعها طوال الليل، فكان الأمر قاسيًا علي، ودخلت في حالة انهيار تامة بعدما غادرتها.
أما الموقف الثاني كان لطفلة أيضًا تتابع تعليمها بشكل إلكتروني وهي بالأصل من الأوائل وذكية جدًا وتوقعت لها مستقبلًا باهرًا، لكن سرعان ما فوجئت بها بعد فترة من إعداد التقرير في السوق تبيع الغُريبة لتساعد عائتلها ماديًا، فُصدمت كيف تحولت بنا دفة الحياة هكذا".
أما خلال التغطية الإخبارية واجهت نور الموت كثيرًا، تحكي لنا عن يوم مجزرة النصيرات، فتكمل: "كنت أنا وفريقي بالقرب من المكان وفجأة شبت السماء بالانفجارات وأصوات الرصاص، وأنا لا أفهم ما الذي يجري، في قلب النار ولا أعلم شيئًا، يضاف هذا الموقف لقائمة المواقف الصعبة التي تعرضت لها".
لقد قابلت نور الكثير من الأحداث المؤلمة، فأحيانًا تكون على الهواء مباشرة، وتقطع التغطية لأجل الركض عند أحد الاصدقاء أو المعارف لمواساته في استشهاد أحد له، تخلع رداء الصحافة وترتدي رداء الصداقة لتطبطب على قلوب المكلومين، تذكر لنا أن زوجها الصحافي أيضًا قد تعرض لموقف لا يُنسى، إذ طُلب منه للدخول لثلاجات الموتي للتعرف على أطفال أحد أقاربه لأن والدهم لا يستطيع الاحتمال رؤية أطفاله يسجون بدمائهم في المشرحة.
مع تكرار المواقف المؤلمة والعيش تحت الضغط الجسدي والنفسي بشكل متواصل، لا تستطيع نور إخفاء حزنها الذي ظهر في كثير من الأحيان أثناء ظهورها في البث المباشر مع القناة التي تعمل بها، ولكنها تقاوم نفسها وتحتمل كل هذا الأذى، فتقول: "أحاول جاهدة الاستمرار والحفاظ على صحتي النفسية لكن هذا ليس أمرًا يسيرًا، وما يدفعني حقيقة للمواصلة هو واجبي المهني والأخلاقي، لذلك أحاول سرقة ساعات من الوقت مع الأصدقاء لأخفف عن نفسي، وأتناول معهم وجبة طعام أحبها، لأشحن طاقتي من جديد ليومين آخرين".
سفّرت أولادي وبقيتُ لأداء واجبي
أما عن نور الأم فتخبرنا أنها أُجبرت على إخراج ابنها وابنتها من غزة إلى القاهرة بعد أشهر من التفكير بإجلائهم، فتكمل: "مش سهل أبدًا أني أسفر ولادي ويكونوا بعيد عني بس عشانهم طلعتهم، وضليت أنا ووالدهم لنكمل عملنا وأداء واجبنا تجاه البلد، صحيح بشتاق الهم كتير بس الشوق أهون من أشوفهم تحت الموت المحقق".
وكلما مر طيف ابنها وابنتها إليها في لحظات شوقها، تذكرهم بشكل واحد فقط وهم يرتدون الملابس المهترئة، تذكر بلوزة ابنتها التي قامت بخياطتها بنفسها بعدما انقطعت، وحذاء ابنها الذي خيطته أيضًا ليرتديه فلا بديل له في ظل منع دخول الأحذية والملابس آنذاك.
تنهي حديثها لبنفسج عن أولادها: "لقد كانت وجوه أطفالي مليئة بالحيوية والأمل قبل الحرب، لكن أثناءها عاشوا حياة مريرة فانطفأ البريق في أعينهم، فابني من لاعب كرة قدم إلى طفل يقف على طابور الماء، رفقة شقيقته التي كانت تؤدي عروض للدبكة، فنسوا كيف كان شكل الحياة سابقًا، لذلك اخترت لهم البعد عني والأمان لهم".