أن تكون صحفيًا في غزة يعني أن تأتيك نوبات اكتئابك على الدوام وتواصل العمل، تظهر بمظهر الثابت المتماسك ولكنك قلبك هش سيبكي حتمًا عند أول موقف يدكك من الداخل. عبرت شروق وقالت: "أنا منهارة". ولأجل عملها نزحت وحدها دون العائلة، فكانت منذ أول يوم في العدوان الإسرائيلي تغطي الأحداث من مشفى الشفاء، ثم غادرت للجنوب أولًا، فذاقت ألم الفراق عن العائلة، وعاشت الغربة في الوطن حتى جاءها الأهل في الجنوب، لم تكن تراهم كان يكفيها أنهم في نفس مكانها، عاشت ليال كثيرة تشتاق لوجه أمها وأبيها ولكن العمل الصحافي سرقها منهم.
تبكي عند كل حكاية مؤلمة، يهتز ثباتها الانفعالي الظاهر، تود لو أن كل هذا ينتهي لتعود للشمال الذي اشتاقت له، وأن تأخذ استراحة محارب مؤقتة لتدواي روحها التي أنهكتها الحرب.
هنا يلتقي "بنفسج" مع الصحافية شروق شاهين، لتخبرنا عن شوقها للشارع والجيران، وعن معنى أن تكون صحفيًا تغطي الحرب، وعن النزوح الذي أتعبها، والقصص التي أبكتها، والليالي الضارية التي تواجه اكتئابها فيها وحدها.
الصحفية شروق شاهين: مراسلة تلفزيون سوريا
تعمل شروق كمراسلة لتلفزيون سورية، إذ تعمل معه منذ العام 2018، توجهت مرغمة هي وفريقها الصحافي نحو وسط مدينة غزة في مشفى شهداء الأقصى بدير البلح، مكثت بها لفترة ثم غادرتها لخانيونس وبعدها لرفح ثم لدير البلح للمشفى مرة أخرى، فكان مجمل النزوح لها ولفريقها حوالي 6 مرات.
تبدأ شروق عملها الصحافي منذ الصباح المبكر وتنتهي في ساعة متأخرة من الليل، في أول ثلاثة أشهر من الحرب كان العمل كثيفًا، تذهب للتغطية الإخبارية هنا وهناك، تتوجه وفريقها نحو البيوت المستهدفة، تعد القصص الصحافية المصورة، لم تكن في البداية تلتقي بأحد من عائلتها أبدًا، ثم مؤخرًا صارت تذهب لهم في زيارات خاطفة حيث مكان نزوحهم.
فتقول لبنفسج: "لقد نزحت قبل عائلتي مع طاقم القناة نحو الجنوب، ثم أجبرت عائلتي على اللحاق بي لأني لا أستطيع مجابهة خوفي عليهم وهم بالشمال، وها هم من يومها ينزحون من مكان لمكان في الجنوب مثلي تمامًا؛ وأنا قلبي يغلي عليهم قلقًا مع كل نزوح".
العطلة رفاهية في الحرب
لم يكن متاحًا في بداية حرب الإبادة الجماعية لشروق رفاهية طلب إجازة لسوء حالتها النفسية والجسدية، ومؤخرًا صارت تطلب حينما تشعر أنها على وشك الانهيار التام، لتجدد طاقتها، فتذهب حيث والديها وعائلتها تنظر في وجوههم لتتحسن حالتها، وتلعب مع أطفال أشقائها، ثم تعود حيث خيمتها وحيدة منهكة، تمارس واجبها المهني والأخلاقي، "من أيام قليلة صرت لما اقعد بخيمتي تعبانة ومش قادرة وبدي أعيط بفتح أشوف أي مسلسل لأفصل دماغي شوية".
تشبه شروق نفسها بالكوب الزجاجي الذي لو لمسته حتمًا سينكسر، وقفت أمام الكاميرا بدموعها كثيرًا
تشبه شروق نفسها بالكوب الزجاجي الذي لو لمسته حتمًا سينكسر، انهارت مرارًا وقفت أمام الكاميرا بدموعها كثيرًا، تتقلب حالتها المزاجية عدة مرات خلال ساعات معدودة، فمرة تبكي ومرة تضحك، يهزها من الداخل منظر النزوح، وحينما تنزح تستنكف عن العمل لتلملم أغراضها وتركض رفقة فريقها نحو المجهول.
ماذا عن أكثر قصة مؤثرة أبكتك؟ تجيب شروق: "القصص المؤثرة كثيرة، وكل حكاية تؤلمني فأنا ابنة غزة، لكن توجد قصة أعددتها في ذكرى العدوان تحكي عن طفلة اسمها منال جودة، فقدت كل عائلتها، ويرعاها الآن جدها وجدتها، آلمني قلبي على هذه الطفلة وكل أطفالنا الذين رحلوا إضافة لمن بقى دون عائلة تكون ظهره في الليالي الصعبة.
أما الحكاية الثانية لزميلي سامي شحادة الذي عرفته منذ زمن طويل بأنه مثال للشاب المجتهد، أصيب في مجزرة النصيرات وفقد قدمه، وحينما رأيته بهذا الحال ارتعشت وشعرت بقبضة بالقلب، وبدأت الأفكار تروادني أنه من الممكن أن أصبح مثله أو أصعب وحتى يمكن أن يصل الأمر لأفقد حياتي".
في الليالي الصعبة وتحت عنفوان أزيز الطائرات وأصوات الرصاص المتطاير والغارات العنيفة، تذهب شروق لأداء عملها في التغطية الإخبارية، تخبرنا أن هناك في الأماكن المستهدفة، يهوى قلبها وهي تشتم رائحة مختلطة بين البارود والغبار والإسمنت والصواريخ والدماء، فتشكل مزيجًا غريبًا من الروائح، وتشدد أن تلك الرائحة لا يمكن أن تنساها بحياتها بقدر ما هي مؤلمة وقاسية.
تطويع اللغة لسرد الحكايا
واجهت شروق عن قرب آلام الناس، عايشتها وعاشت معهم تفاصيلها، في المشفى حيث تبقى أربكها صراخ الأطفال وهم ينادون على والدهم أو والدتهم، هزها من الداخل منظر طفل مسجى على الأرض يصرخ بعد نجاته من تحت الأنقاض، فتكمل لبنفسج: "في أول أيام الحرب بمشفى الشفاء كان عدد الشهداء كبيرًا جدًا، كنا نستيقظ على منظر الجثث الكثيرة الموجودة بساحة المشفى، فلا طاقة استيعابية للمشرحة أن تستقبل هذا العدد، ولا حتى الخيام التي نصبتها وزارة الصحة للجثث في الخارج تتسع، فكنت استيقظ من النوم ورائحة الدماء تحوم بالمكان".
وبعد عام من التغطية الإخبارية ما زالت شروق على رأس عملها، تنهار في اليوم مئات المرات، يضنيها الشوق لمدينة غزة وللبيت الذي تعلم علم اليقين أنه لم يعد موجودًا، فقد مسحته "إسرائيل"، فتقول لبنفسج بصوت أنهكه الشوق: "أنا اشتقت لأصغر تفاصيلي اليومية، اشتقت أرد السلام على جارتنا إم خالد وهي تدعيلي الله يسهل عليكِ، اشتقت للجلاء وللرمال، اشتقت للمطاعم يلي لما كنت أزعل أروح مطعم أكل أكلة لذيذة فيه، لشغلي ببرج الغفري ولمشروب مزاج، للميناء والبحر".
والآن ما زالت تتمسك بأمنياتها وأملها في العودة لشمال غزة، لتنظر نظرة الوادع على ركام البيت، لتحتضن الشوارع بعينيها الذابلة من شوقها وحزنها، ثم ستحزم الأمتعة وتأخذ هدنة مؤقتة من العمل الصحافي وستسافر لتغيير نفسيتها التي دُمرت تمامًا في أشد حرب في التاريخ المعاصر، ثم تعود لمسقط رأسها من جديد لتكمل طريقها في الأرض الذي تحب.