ماذا يعني أن تكون صحفيًا تحت مرمى النيران أنت وعائلتك! وماذا يعني أن تكوني أمًا صحافية تمارسين عملك طوال اليوم وتعودين لصغارك في الخيمة تطبطبين على قلوبهم الملتاعة من شوقهم لك، ومن الغارات العنيفة! أن تكوني أمًا وتتوارد لك الأخبار على الهواء مباشرة بقصف المكان الذي تقطن فيه عائلتك الصغيرة، فيرتجف قلبك، وصور أطفالك تتوارد إلى ذهنك، فتركضي نحو الخطر دون تفكير...
أن تنجي من الموت مرات ومرات، وأن تشاهدي وجه ابنتك في كل ابنة صغيرة قضت على أحلامها الحرب وأصابتها في مقتل. ماذا يعني أن تكوني صحافية نازحة مشتاقة للبيت والجدار! وللمدينة بأسرها. هنا نحكي مع المراسلة الصحافية ربا العجرمي، التي آثرت أن تكون في ميدان العمل الصحافي، ستحكي لنا عن يوم من حياتها في التغطية الإخبارية، عن الموقف الأصعب والقصة التي أبكتها بضراوة، عن أطفالها وبُعدها عنهم بفعل واجب التغطية الإخبارية.
الصحفية ربا العجرمي
تعمل ربا العجرمي كمراسلة لقناة TRT التركية، منذ بدء العدوان وهي من نزوح لنزوح، نزحت ما يقارب السبع مرات، أولها من شمال غزة إلى الجنوب ثم تنقلت بين مدن الجنوب بغية الحصول على أمان لصغارها. تقول لبنفسج عن يومها في العمل الصحافي خلال الحرب: "يومي عادة يبدأ بإنجاز مهامي العائلية مع أطفالي، ثم أستعد للخروج لبدء التغطية الإخبارية في بث مباشر، وأتحرك بعدها لإعداد قصص صحافية، ثم أعود للبيت وبيدي حاجيات لأطفالي يحبونها كتعويض عن الغياب حتى ساعات الليل".
لا تتوقف المواقف الصادمة من العبث بحياة ربا التي تعيش أوجاع الحرب كنازحة، وصحافية، في مرة وأثناء خروجها على الشاشة لتغطية حية ومباشرة على قناة TRT التركية، وبينما هي تسترسل في نقل آخر الأحداث، وإذ بالمذيعة تقاطعها لتنقل الخبر الصادم بالنسبة لها: "استهداف أبراج سكينة في خانيونس مكتظة بالسكان والآن نشاهد مشاهد حصرية من مكان الحدث".
وربا تستمع للخبر بأعين مفتوحة، وشعرت بأن نوبة من الخوف تسيطر عليها، وقلبها يهوي من مكانه بارتجافة، لم تنطق حتى سألتها المذيعة: هل لديك أخبار عن الحدث؟ فأجابتها: "لا أعلم شيء عن هذا القصف وإن عائلتي تعيش في هذه المنطقة".
أمسكت هاتفها بأعجوبة لتبدأ بالاتصال على زوجها وأطفالها لكن لا مجيب، لم تطيق الانتظار فركضت فورًا لمكان نزوحها، فوجدت أطفالها بخير، فاحتضنتهم وكأنه أول عناق شغوف لهم.
تطويع اللغة لسرد الحكايا
ماذا عن القصة الصحافية التي أعددتها وآلمتك؟ تجيب ربا بصوت هادئ: "كثيرة هي القصص المؤلمة في غزة، وكل ما أقوم بإعداده قاس وموجع، لكن توجد قصة لفتاة بعمر ابنتي وهي ناجية وحيدة من عائلتها بُترت كل أطرافها، وأضحت بلا عائلة ولا أطراف، ترعاها جدتها الكبيرة في السن، تخيلت ابنتي مكانها لا سمح الله، وهي تحكي لي قصتها دخلت في نوبة بكاء عنيفة أمامها، كانت وقتها تنظر لي باستغراب وتسأل "لماذا تبكي المراسلة".
وفي ظل كل ما تتعرض له ربا من مآسي وآلام تحاول أن تحافظ على طاقتها التي فرغت بالكامل، ولكنها تعافر لأجل أداء واجبها الأخلاقي والمهني، فتكمل: "في ظل الخذلان الدولي أشعر بفقدان الأمل، وأحيان كثيرة أقول أنا لماذا أعمل ؟ لمن نصور ونحكي الحقيقة؟ فتتملكني طاقة من غضب تجاه كل شيء، وحتى لو أردت تجديد طاقتي وفصل دماغي قليلًا فلا رفاهية لذلك، لا إجازات متاحة لأنه إن فرغ مكاني لا أحد يغطيه".
نظرت ربا في عيني الموت مرارًا، فانقبض قلبها في كل مرة خوفًا على أطفالها، وقبل أن تفكر بنجاة لأجلها، فكرت بهم أولًا، تحكي لنا عن تقرير طلب منها إعداده عن الميناء العائم، تكمل لبنفسج: "توجهنا نحو أقرب نقطة للمكان عند جسر وادي غزة الذي يفصل شمال غزة عن جنوبه، شعرت بالقشعريرة وارتجفت وأنا أرى خط العبور نحو الشمال، فثوان وأدخل وأكون عند منزلي بعد نصف ساعة من الزمن، أخرجني من حالة الشوق والشرود الذهني صوت قصف قريب جدًا".
" أنت أيضًا أم عاملة في غزة"
أما عن أطفالها الثلاثة يُمنى وكندا ومالك التي تغيب عنهم ربا لساعات طويلة بحكم عملها، تقول لبنفسج: "أحاول تعويضهم عن غيابي بالسهر معهم ليلًا ليحكوا لي ما فعلوه في غيابي، ودائمًا ما ينقبض قلبي حينماأسمع قصف بالقرب منهم، فأهرع للهاتف للاطمئنان عليهم، حقيقة معاناتي النفسية مضاعفة بالعمل والقلق على عائلتي، لذلك أنا بحاجة لدعم نفسي بعد الحرب من قبل مؤسسات مختصة".
انتشرت صورة لربا وطفلتها يمنى وهي على الهواء مباشرة، ظهرت صغيرتها في الصورة متمسكة بملابسها رافضة تركها، فتعلق على الصور قائلة: "كانت يمنى مريضة كتير وحرارتها مرتفعة، ولازم أوديها المشفى، فأخدتها معي، قلت بخلص تغطية وبدخلها للدكتور فورًا،رفضت يمنى تروح مع زملائي بعيد عن الكادر، فاضطريت أخليها معي وأنا بنقل آخر الأحداث".
أما صغيرتها كندا فقد ظهرت في ستاند لتقرير أعدته ربا، وهي تحتضن والدتها، تكمل: "كان التقرير عن معاناة الأمهات في غزة، استيقظت وأنا أصور التقرير، فتمسكت معي ورفضت أن تذهب مع أحد، فأخبرني المصور أن لا داعي للضغط على الطفلة، اتركيها معك وأكملي حديثك، التقرير عن الأمهات وأنتِ أم".