تستند على قلبها في طريق الموت المحتوم الذي رصفه الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، تشعر فقط بما يجري حولها، تسمع الأصوات الصارخة الخائفة من عنفوان الغارات الإسرائيلية دون أن ترى، عيناها هما فؤادها المرتجف من هول القيامة الماثلة أمامها، فقدت بصرها منذ زمن طويل؛ فقالت لا بأس سيكون قلبي الدليل. في حرب الإبادة الجماعية وفي ظل الهروب من موت لموت، ركضت مرات ومرات وهي تستند ليد مرشدها في الطريق، كانت حاسة السمع الوحيدة التي تساعدها على فهم ما يجري، فارتجفت في كل مرة كانت تهرب من الموت وهي تقول: "وين نروح".
تستضيف بنفسج الإعلامية وردة الشنطي التي تدرس ماجستير في الإعلام، والناشطة في مجال الإعاقة، وهي من أصحاب الإعاقة البصرية، لتخبرنا عن خصوصية حالتها وأقرانها في ظل حرب الإبادة الجماعية، عن النزوح والفرار من جنون المجازر الإسرائيلية، ولتروي كيف غيرت مفاهيمها الحرب.
وردة الشنطي: أول إعلامية كفيفة في فلسطين
تسكن وردة مخيم المغازي لكنها نزحت منذ بداية الحرب إلى النصيرات وتنقلت بين المخيمات حتى وصلت رفح، ثم عادت مرة أخرى لمركز الإيواء في المحافظة الوسطى، تقول لبنفسج عن خصوصية ذوي الإعاقة البصرية في الحرب: " يعاني ذوو الإعاقة البصرية من صعوبات مضاعفة مقارنة بغيرهم؛ فهم بطبيعة الحال يعتمدون على بيئة مستقرة وآمنة للتنقل والعيش، ولكن في ظل الفوضى والدمار الذي تسببه الحرب، تصبح هذه البيئة غير موجودة. انقطاع الكهرباء والطرق المدمرة يعني فقدان وسائل التنقل الآمن لهم. كما أن الوصول إلى الخدمات الإنسانية يصبح تحديًا كبيرًا بسبب عدم توافر وسائل الدعم الخاصة لاحتياجاتهم".
وتضيف: "في الحرب تتكشف مأساة جديدة للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، حيث يجدون أنفسهم في وسط الفوضى دون القدرة على رؤية أو تقدير المخاطر المحيطة بهم. في تلك اللحظات الحاسمة، الصوت هو حليفهم، لكنه في كثير من الأحيان يكون مشوشًا ومخيفًا. يتعذر عليهم تحديد الاتجاهات أو الوصول إلى ممرات آمنة، مما يجعلهم أكثر عرضة للخطر. تتضاعف معاناتهم عندما يفتقرون إلى الدعم الكافي، تبرز هذه التحديات الوجه القاسي للحرب، حيث تضع الإعاقة البصرية أصحابها في دائرة العزلة والخطر، وتجعل منهم رمزًا لإنسانية تتوق إلى الأمان والرحمة في خضم الألم".
الصوت: السبيل الوحيد للفرار من الموت
تلجأ وردة لرفيق طريق تساندها يديه لتصل إلى بر الأمان، كانت تتنقل بين أيدي أفراد العائلة فيرافقونها في كل نزوح، وأحيانًا يرافقها شخص غريب عنها، ليدلها على طريق الفرار من الموت، تعقب: "كنت أشعر بأنني أتنقل بين أيدٍ مختلفة، وكل يد لها طريقتها في تقديم المساعدة. وكان من الصعب عليَّ أن أستقر عاطفيًا أو أن أشعر بالأمان وسط هذه الفوضى، كانت التجربة مليئة بالغموض والتوتر، لأنني لم أكن أعرف من سيكون معي في الرحلة القادمة، أو ما إذا كنتُ سأحظى بنفس الدعم الذي كنت بحاجة إليه. لكن مع كل ذلك، حاولت أن أبقى قوية. كنت أعتمد على نفسي بشكل أكبر، وأجد طريقي في كل موقف جديد، حتى لو تغير الأشخاص من حولي".
تخبرنا وردة عن موقف آخر أوجع قلبها حينما أُصدر أمر بالإخلاء من المنطقة التي نزحت لها رفقة العائلة، كان التنقل وسط الحشد دون رؤية أشبع بالسير في متاهة، حينها شعرت بالعزلة، تسمع فقط أصوات الناس حولها التي تدلل على الخوف والقلق، لكنها لم تر تعابير الوجوه أو معرفة أين طريق سيرهم، كانت تسير فحسب وفق إرشادات مرافقها، تقول لبنفسج: "اضطررت للاعتماد على من كان بجواري، ولكن كان واضحًا أن كل شخص كان غارقًا في مخاوفه الخاصة، بينما كنا نسير بسرعة، توقف مرافقي للحظات، وكان يبدو وكأنه لا يعرف إلى أين يتجه. حينها، شعرت بضغط كبير، ليس فقط لأني كنت معتمدة عليه، بل لأنني كنت بحاجة إلى توجيه نفسي والشخص الذي بجواري أيضًا، بدأت أتحدث معه بهدوء وأطلب منه أن نركز على التحرك خطوة بخطوة".
هجموا علينا الجنود جوا الخيمة
واجهت وردة الخوف عن قرب فعرفت وجهه القاسي، طبطبت على قلبها كلما ارتجف، وحين باغتتها القوات الإسرائيلية في خيمتها في خانيونس حيث المنطقة التي ادعى الاحتلال أنها آمنة، داهمها شعور بالعجز وقلة الحيلة، فتقول لبنفسج: "مش قادرة أوصف شعوري وقتها..
بعرف أنه الحرب قاسية كتير لكن أكون بوسطها ومقدرش أتحرك بسبب إعاقتي البصرية، فكان الأمر مرعب كتير، سامعة صراخ وانفجارات لكن مش شايفة شو بصير، وقتها سمعت صوت قلبي وهو بخفق بشكل جنوني".
مر أشهر على الحادثة ولكن وردة ما زالت تتذكر تفاصيل الحدث، وكيف كان عقلها يعصف بأسئلة لا إجابة لها: "ماذا سيحدث الآن؟ كيف سأنجو من هنا؟ تكمل: "كنت أسمع خطوات الجنود وصوت المعدات الثقيلة وهي تقترب، وكل ما أتمناه في تلك اللحظات هو أن أكون قادرة على التحرك أو على الأقل أن أرى ما يحدث حولي. لكنني كنت عالقة في مكاني، أشعر بالخوف وعدم اليقين. لم يكن لدي خيار سوى الاعتماد على حواسي الأخرى وعلى من حولي. كل لحظة تمر كانت تبدو وكأنها دهر".
كوميديا سوداء..جميعنا لا يرى شيئًا
أما عن تجربة العيش في مركز نزوح لشخص من ذوي الإعاقة البصرية، كان أشد وقعًا وقساوة على وردة، ففقدت مساحة من خصوصيتها، وتتعاطي مع المواقف كل على حسب الموقف، تضيف لبنفسج: "في مركز النزوح، كنت أحاول معالجة صعوبة الموقف بطريقتي الخاصة، فأحيانًا ألجأ إلى السخرية للتخفيف من حدة الواقع.
أذكر مرة عندما توقف مولد الكهرباء ليلًا، وسط الظلام الدامس، كتبت عن تجربتي تلك اللحظة. حينها، أصبحت أنا والأشخاص الذين ليس لديهم إعاقة بصرية سواءً. فجأة، الجميع عاش نفس التجربة التي أعيشها يوميًا، تلك اللحظة كانت ساخرة بطريقة ما، وكأن القدر أراد أن يضع الجميع في موقفي ليدركوا أن الظلام ليس مرعبًا بقدر ما هو جزء من روتيني اليومي. وفي تلك الليلة كنت أكثر تأقلمًا من الجميع".
كيف غيرتك حرب الإبادة الجماعية وماذا تعلمت منها؟ تجيب وردة: "علمتني الحرب الكثير وغيّرت في داخلي أشياءً لم أكن أتوقعها. أصبحتُ أكثر صلابة وقدرة على التحمل. لم تعد الصعوبات اليومية تشكل عائقًا بالنسبة لي كما كانت من قبل. فقد تعلّمت كيف أواجه المواقف بأعصاب هادئة، وكيف أجد القوة حتى في أكثر اللحظات ضعفًا، أدركت أنني أستطيع التكيف مع أي شيء، وأن التحديات ليست سوى مراحل مؤقتة يجب أن أتعامل معها. الحرب جعلتني أكثر وعيًا بقيمتي الحقيقية وقدرتي على التأقلم، حتى مع ظروفي الخاصة".
تستطرد وردة حديثها عن تغير نظرتها لكثير من الأمور في ظل الحرب، فعلى صعيدها الشخصي، أضحت تقدر البساطة وأصغر الأشياء التي كانت تعتبر من المسلمات من قبل، وغيرت في قدرتها على التواصل مع الناس، فأصبحت أكثر تفهمًا للمعاناة وخاصة لمن يعانون من تحديات يومية مثلها.
تكمل لبنفسج: "الحرب أيضًا جعلتني أعيد التفكير في ما أريده للمستقبل، وأن أكون ممتنة لكل لحظة أعيشها. لقد أخذت منا الكثير، لكنها أيضاً أعطتني قوة لم أكن أعرف أنني أملكها، واكتشفت قدرتي على التحمل أوقات الأزمات".