بعصا وكوفية وكرسي، مشهد يعلو إلى القيم الجمالية التي تحاكي مخيال الشعب الفلسطيني، صانع الملحمات والأساطير. وما يحدث منذ حرب الطوفان ملحمة تاريخية أسطورية، لم يكن لأحد أن يفكر بها واقعيًا بأدوات مادية عقلية.
و يتميز العمل الفني عن هذه الأشياء في كونه منتَجا، لذا، يمكن تعريف الفنّ على أنه نقلٌ مقصود لخبرةٍ ما، بوصفها غاية في ذاتها. محتوى تلك الخبرة ضمن سياقها الثقافي قد يحدد إن كان العمل الفني شعبيا أو عابرًا، مهما أو تافها. لكنه فن في كل الأحوال.
إن مقولات الفاهمة بكل قواها العقلية وقوانينها لا تستطيع فهم مشهد ملحمة السنوار، بعناصر الثلاثة؛ عصا وكوفية وكرسي. فهل يستطيع الفنان استلهام قوتها في مشهد مركب؟
مشهد خالد
إن الذائقة الفنية بكل أبعادها وانفعالاتها العاطفية تحاول لملمة مشهد المحارب الفلسطيني الذي تحول لأيقونة "محارب عالمي" يقاتل حتى نفس روحه الأخير من أجل الحرية. والحرية مفهوم مجرد يتفق عليه كل أحرار العالم، وكل من يرفضون الاحتلال والظلم أيا كان مصدره، وينحنون لمن ينتصر لها ويحارب من أجلها مهما كانت جنسيته ولونه وعرقه وبلده ودينه ولغته ويخلدونه في ذاكرة التاريخ.
الحرية مفهوم مجرد يتفق عليه كل أحرار العالم، وكل من يرفضون الاحتلال والظلم أيا كان مصدره، وينحنون لمن ينتصر لها ويحارب من أجلها مهما كانت جنسيته ولونه وعرقه وبلده ودينه ولغته ويخلدونه في ذاكرة التاريخ
وهذا ما أضحى يحيى السنوار عليه، ليس رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وليس القائد العسكري في قطاع غزة، وليس السجين لقرنين في سجون الاحتلال فحسب، بل مقاتلًا نيابة عن كل مظلومي العالم، بطلًا شجاعًا جسورًا. وهي قيم عليا يحتفى بها الفن ويستلهم منها أفكاره التي يعبر عنها رسمًا ونحتًا وموسيقى.
ونجد الرسومات التي نشرت تخليدًا لمشهد السنوار وسيرته وحياته البطولية، تعتمد على ذروة فعل الشهادة الذي صنعه السنوار، وكأن اللوحات روت قصة حياته مناضلًا ومقاتلًا حتى موته. فبعض الصور أظهرت يده المبتورة والمربوطه ونظراته الشامخه، وبعضها أظهرته يرمي عصاه وهو جالس على الكرسي مرتديًا كوفيته.
وبعض الصور اكتفت بإظهاره على الكرسي الذي اشتهر به قبل استشهاده، وذلك فيه استدعاء لقوته وكبريائه الذي عرف الشهيد بهما. وبعض هذه الصور أبدعت فنًا مجازيًا يعبر فيه عن معاني الارتقاء بطريقة رمزية لا يفهمها سوى من وعي المشهد في أعماقه.
تخليد الثورة والثوار
في كل أمة من الأمم فنها المميز الذي ظهر في توازٍ مع وجودها وتاريخها وحضارتها؛ انتصاراتها وإخفاقاتها، بل والاضطرابات بل كان سببها ومصدرها، وكل هذه العوامل والتغييرات تبرز في فنون هذه الأمم، في كل أنواع الفنون، وفي الرسم تحديدًا، في أنواعه وأقسامه المختلفة. كما عبر الفن عن الثورات في بلدان مختلفة باستلهام قادتها وأحداثها.
واليوم في حرب الطوفان رسم الفنانون لوحات أبدعوا فيها؛ رسم الفحم والأغريلغ، والرسم ديجيتال آرت، وغيرها من أنواع الرسم وأدواته، عبروا فيها الثورة الفلسطينية وتمثلات الطوفان في مخيالاتهم، وأبطاله وقادته، ومن أبرزهم، كما أطلق عليه تسمية "قائد الطوفان"، الشهيد المقاتل يحيى السنوار.
ساموراي فلسطين
ألهم مشهد استشهاد السنوار الفنانيين العرب وغير العرب، فرسموه في مشهد ارتقائه، هذا المشهد الذي يقترب إلى الخيال، مشهد أسطوري لا يستطيع تمثله إلا الفن، والفن فعل يسكب ا لانفعالات الفنية في أشكال مختلفة.
وهذه صورة ترسم السنوار وتمثله محارب الساموري الذي يموت واقفًا، وينافح ويدافع حتى آخر رمق، بكبرياء وشموخ، والسنوار أصيب إصابات خطيرة، بصواريخ وشظايا في مناطق مختلفة من جسده، وبترت يده فربطها، وظل جالسًا على الكرسي وبيده العصا، ورماها موجهًا إياها إلى طائرة الاستطلاع التي تحاول قتله، وهو آخر ما استنفذه من الفعل حتى الطاقة الأخيرة التي تسعفه بقوة عزيمته، فنقول مات السنوار واقفًا.
الفن يخلد السير
هناك أشكال مختلفة للفن، أحدها الرسم، وكلها شكل من أشكال التخليد، التأريخ، التأصيل، لسيرة شخص، أو انفعال ذاتي أو عاطفي تجاه الأشياء والأحداث، ويمكن تعريف الفنّ على أنه نقل مقصود لخبرةٍ ما، بوصفها غاية في ذاتها. محتوى تلك الخبرة ضمن سياقها الثقافي قد يحدد إن كان العمل الفني شعبيا أو عابرًا، مهما أو تافها. لكنه فن في كل الأحوال.
يبدع الرسامون أشكال الرسم المختلفة منذ بدء حرب الطوفان، وهو ما يدل على أنه حدث مفصلي غيّر طريقة تفكيرنا ووعينا للأحداث والأشخاص
ويقول بعض الإستيقيون، أو المتخصصون بعلم الجمال "الإستيقيا"، بأن العمل الفني ينفصل طبيعة الواقعة المادية التي نعيشها وتحيط بنا، ومع ذلك يتطلب الموقف الجمالي التعاطي مع التجربة الفنية كغاية مطلقة قائمة بذاتها: يسألك الفن أن تأتيه دون أي تحيزات، كوسيلة لتذوق العمل الفني. ومع ذلك، قد تكون حادثة ما أو شخص ما أو انفعال ما سبب في انطلاق قريحة الفنان تجعله يبدع أهم لوحة فنية.
ومن ذلك نجد الرسامين يبدعون أشكال الرسم المختلفة منذ بدء حرب الطوفان، وهو ما يدل على أنه حدث مفصلي غيّر طريقة تفكيرنا ووعينا للأحداث والأشخاص. إنه وعي مشترك يجمع أحرار العالم دون شك، لذلك وجدنا تفاعلًا كبيرًا مع مشهد اسشهاد السنوار، كونه ليس اغتيالًا، بل استشهادًا بقصدية الفاعل الذي قاتل حتى آخر رمق.