منذ بداية الحرب، ونحن في بنفسج، نوجه بوصلتنا نحو النساء في غزة، نرصد ونستعلم ونتحقق عن كل ما يخصهن، أحداثًا ساهمن في صناعتها، أو سرد رواياتهن وشهادتهن، وكذلك القتل الموجه، والإبادة الجماعية بحقهن.
والاحتلال عندما يوجه آلته العسكرية فهو يوجهها مستهدفًا النساء، الرائدات والمؤثرات والأمهات، ولكل منهن مكانتها وتأثيرها في غزة وفلسطين عامة. وقد مضى عام على الحرب والاحتلال يستهدف الصحافيات بشكل مباشر. وحوار اليوم لصحافية وناشطة قال عنها الناس في غزة بأنها "جبارة الخواطر، الحنونة التي يؤي إليها أفراد عائلتها مع أنها تالي لعنقود"، الإعلامية التي تعرفها كل غزة، صغارها وكبارها، حنين بارود، ابنة الأم الشجاعة التي عرفتها كاميرات الإعلام كافة وهي تزغد لاستشهاد أبنائها واحدًا تلو الآخر، لأم مالك.
خدمة النازحين: آخر عهدها بالدنيا
عندما شرعت في إجراء حوار مع ذوي حنين وصديقاتها وأهلها، وجدت أن الكل يعرفها، الكل في الميدان، والكل في المدارس، ومراكز الإيواء، حارتها، ومخيمها مخيم الشاطئ، والكل يجمع على حنين، الصبية المحبوبة الضحوكة التي تبث الخير والتفاؤل أينما ذهبت.
استشهد إخوة حنين الأربعة خلال الحرب وفُقد والدها، وهاي هي اليوم ترتحل إليهم، إذ استشهدت في قصف مدرسة أسماء أثناء أداء عملها في لجنة الطوارئ، فمن هي حنين، ولماذا تأثر بها كل من عرفها؟
"جبارة الخواطر، الحنونة التي يؤي إليها أفراد عائلتها مع أنها تالي لعنقود"
توجهت أولًا إلى صديقتها في الميدان واسمها إسراء، ولكن الاتصال كان متقطعًا غير موصول، فالاتصالات في غزة نادرة العمل، والتنقلات والمواصلات أيضًا صعبة وشبه معدومة، فوجهتني إسراء إلى صديقة صحافية أخرى، واسمها كذلك إسراء العرعير، فواجهت المشاكل ذاتها، فالصحافيات في غزة كثيرات التنقل دون توافر إشارات اتصال قوية.
ولكن إسراء أجابت على أسئلتني حتى لو بشكل مقتضب، وواظبت تقول بين كل رسالة وأخرى "سامحيني...أتأخر عليك، فأنا أفقد الاتصال...نفذ شحن هاتفي....". وأرسلت لي محادثاتها مع حنين، بل ووجهتني أيضًا إلى أختها وأمها وهن من تبقى من عائلتها بعدما رحل البقية.
تقول العرعير:" كنا نطلب منها أخذ الحيطة والحذر لكنها كانت تقول " العمر واحد" فلم يثنها أي شيء عن التميز في عملها الصحفي حيث لم تتوقف يومًا عن تطوير نفسها في كل مجالاته حتى أصبحت مدربة الصاعدين في هذا المجال". وكانت العرعير بسبب خوفها على صديقتها تنصحها بأن تتوقف عن العمل خشية أن تتعرض لأي استهداف فكانت ترفض ذلك بشدة وتصمم على أداء رسالتها رغم كل الظروف.
تقول إسراء العرعير: " فقدت زوجي وأشقائي وكثير من صديقاتي في هذه الحرب فكنت أحاول ألا تتعرض حنين لأي أذى كي نلتقي مجددًا بعد الحرب، ونسهب في الفضفضة عما يعتمل بداخل قلوبنا من ألم لكنها رحلت قبل أن أحظى برؤيتها مجددا وهي صامدة وعلى رأس عملها رغم الألم والجوع والعطش".
استشهدت قبل نقاش الدكتوراه بعشرة أيام فقط
سألت إسراء العرعير، الصديقة الصحافية لحنين بارود، عن حنين، نشأتها ودارستها، فقالت: "كبرت حنين ونشأت في مخيم الشاطىء غرب قطاع غزة، ورغم أنها درست في المجال الطبي والعلاجي إلا أنها عشقت الصحافة والعمل الإعلامي، فأعادت دراستها وحصلت على بكالوريس الإعلام وماجستير في الصحافة وكذلك الدكتوراه في الصحافة، وتبقى عليها نقاش رسالتها قبل استشهادهها رحمها الله بعشرة أيام".
وعن عملها ونشاطها المهني والتطوعي والاجتماعي قالت: "حنين بارود، روحها حلوة وطموحة ومبدعة. عملت في مؤسسة القدس وأحبت العمل في مجالاتها وذلك لأنها محبة القدس ووفية لها؛ إذ كانت كل أعمالها تصويرًا ومونتاجًا يخص القدس. كما عملت في مسيرات العودة على المستوى الإعلامي تصويرًا وتغطية ومونتاجًا.
تضيف الصحفية العرعير:" كانت تحب عملها كثيرًا لدرجة أنها حولت من تخصص التحاليل الطبية للإعلام وارتقت سريعاً في درجات السلم الإعلامي حيث أنها تميزت بتفانيها واجتهادها ومثابرتها".
وتتابع:" تميزت في مجال التصوير الفوتوغرافي والفيديوهات خاصة في مسيرات العودة حيث كانت تعمل بكل حب وتحدثني عن شوقها الكبير لبلدتها التي هجرت منها عام ١٩٤٨ " بيت داراس. ورغم ثقل المآسي التي توالت عليها منذ بداية الحرب بفقد والدها وأشقائها إلا أنها كانت صابرة ومحتسبة وظلت مواصلة لعملها الإعلامي لنقل قصص الشهداء".
حلمت بالعودة وتعلقت بالقدس
تقول إسراء كم أن حنين تأثرت في عملها وربطته بحلم عودتها إلى قريتها المهجرة، بل إن سبب عملها في تغطية مسيرات العودة كان هذا الحلم أساسًا، تقول إسراء: "حنين في الأصل من بلدة مهجرة تدعى بيت داراس، ولطالما تحدثت عنها بشوق، وكان حلمها هو العودة إلى بلدتها، بل إن عملها تغذى بهذا الحب، فأثر على عملها بشكل مباشر. كان عملها شغوفًا بحلم العودة، العودة إلى بيت داراس، وانعكس ذلك على تصويرها وعملها عمومًا وكان جليًا واضحًا فيه.
تضيف إسراء: "لقد كانت صدمتي كبيرة باستشهادها، فلم أكن أتوقع أن تصبح هي الخبر بعد أن كانت تنقله. لقد أصيبت حنين سابقًا خلال عملها الإعلامي، وخلال الحرب الحالية تحملت فقدان البيت والعائلة والأصدقاء، والجوع والعطش والتشرد أثناء صمودها في مدينة غزة حتى لحظاتها الأخيرة ". ولم توقف أي ظروف رغم صعوبتها عن عملها الصحفي.
نزحت حنين وعائلتها، من نزوح إلى نزوح، حتى أرهقهم حلهم وترحالهمم من مكان إلى آخر، ولكنها ظلت مواظبة على عملها، حريصة على تقوية من حولها واحتضانهم. تقول إسراء "كانت حنين ترسل لي: متى تخلص الحرب ونلتقي. كانت جبارة الخواطر تشارك زميلتها وصديقاتها في كل المناسبات.
لو أحكي مجلدات لن أوفي حق حنين، لم تكن حنين شخصًا عاديًا، تجبر خواطرنا جميعًا، تسكن غرب غزة رغم ذلك تزور من هم إلى الجانب الآخر من غزة. كانت مؤمنة بالله، وتحتمي بالقرآن، متسمكة به جدًا، وتعتني بأهلها. قبل استشهادها بيوم واحد، تواصلت معها، وقلت لها أن تهتم بنفسها فأجابت: العمر واحد والرب واحد وتضحك وتقول نياله الي ربنا يكرمه بالشهادة.
مرة كانت جاية تزور صديقة إلها برفح وبعدها أجت تزورني بخانيونس بحكيلها يا حنين غمرتيني بكرمك وزيارتك أنا خجلانة منك لأني ما زرتك من زمان بتحكيلي مش مشكلة يا إسراء كلنا واحد المهم إنك تكوني بخير وكل حبايبي بخير ما بستنى منك مقابل للزيارة.كانت تحب أخواتها وتحرض على شراء ما يرغبن به ويحببنه. نكون ماشيين وتشوف محل حلويات، تحكيلي بدي أجيب لأبوي وأمي، كانت تعتبرهم كل حياتها."
حنين بارود: خامس الشهداء لأمها
تتابع الصحفية إسراء العرعير حديثها عن صديقتها الشهيدة حنين بارود فتقول: " حنين حنونة جدًا تحب أهلها وعائلتها، بل وتعلقت بهم كثيرًا، وكان أحمد، رحمه الله، تالي العنقود، متعلقًا بها ومرافقًا لها على الدوام أينما ذهبت. ولحنين أربعة إخوة من الذكور، و3 أخوات بنات.
فقدت أشقاءها الأربعة الذكور تباعاً، في حين تجهل العائلة مصير والدها حتى اللحظة ولا يعلمون إن كان أسيرًا أم شهيدًا، استشهد شقيقها الأكبر محمد وهو يحاول إنقاذ مصابين استهدفهم الاحتلال، ثم تبعه بعد فترة وجيزة استشهاد شقيقها مالك - الذي كان " اليد اليمنى" لوالده في عمله الإغاثي من خلال " لجنة طوارئ الشاطيء" ـ
إثر استهداف مباشر له برفقة عدد من زملائه. ولم تكد الأسرة تبدأ في استيعاب حقيقة فقد ابنها الأكبر حتى سارعها القدر باستشهاد الشقيقين الأصغر مؤمن وأحمد أثناء أدائهما لصلاة الظهر في " المسجد الابيض" بمخيم الشاطيء إثر استهداف الاحتلال له بشكل مباشر في مجزرة أسفرت عن استشهاد اثنين وعشرين من المصلين.
ولم تتوقف المآسي التي حلّت بالأسرة عند هذا الحد بل ظل مصير الوالد مجهولا حتى اللحظة حيث اختفت آثاره أثناء قيامه بعمله الإغاثي ولم يعرف حتى الآن ما إذا كان شهيدًا أو أسيرًا، حاولت الشهيدة حنين برغم كل ذلك أن تتعالى على جراحها حفاظًا على مشاعر والدتها التي أرهق قلبها. تقول إحدى صديقاتها "قلبها أبيض نقي طيبة وحسنة الخلق بشوشة ودائمة الابتسام كل الصفات النقية اجتمعت بحنين ربنا اختارها واصطفاها للشهادة من طيبة قلبها".
"لدينا قماش أبيض للكفن ولا يوجد قماش لرايات الاستسلام"
تقول أمها أم مالك، الأم الصابرة المحتسبة، إحدى خنساوات فلسطين، في أحد اللقاءات الصحفية: "لدينا قماش أبيض للكفن ولا يوجد قماش لرايات الاستسلام" ، هذا ما قالته الأم وتقوله للعالم أجمع بعد أن فقدت زوجها وأبناءها وابنتها حنين. "زغردت خمس زغرودات للأول والثاني والثالث والرابع وللبنت.
الدكتورة حنين، تخرجها كان كمان عشر أيام... للشهادة فرحة أن تتبوأ مقعدها في الجنة مع ولادي، ربيت مالك 31 سنة حنين 30 محمد 26 مؤمن 19 سنة أحمد 16 سنة، ربيتهم وتعبت عليهم أحسن ترباية. نكفن أبناءنا بالأكفان البيضان ولا نرفعها استسلامنا....". نعم ما ربيت يا أم الشهداء، تقبلك الله وإياهم!