بنفسج

وحدهن في طريق الموت: نساء غزة وويلات النزوح

الإثنين 11 نوفمبر

ويلات النزوح في غزة
ويلات النزوح في غزة

بعد مضي 400 يوم من الحرب والقتل والتهجير والتجوع على قطاع غزة، ومرور 35 يومًا من العملية العسكرية على شمال القطاع، فإن المرأة الغزية هي أكثر من تتكبد الويلات في تأمين الأطفال وسد جوعهم، ومن ثم تحمل مشقات النزوح التي لا حصر لها.

هذه المادة قراءة لمشهد النزوح المستمر منذ اليوم الأول من الحرب؛ إذ إن التدفق البشري المليء بالمخاطر ما هو إلا مسار الإعدام الإسرائيلي الذي لا خيار فيه. يُجبر الأهالي على ترك أماكن عيشهم؛ بيوتهم أو مراكز الإيواء التي يحتمون بها، أو ربما بقعة صغيرة في مكان ما لا تسمى إلا تشردًا.

ولا نكاد نرى في مشاهد النزوح إلا النساء والأطفال، بل الأطفال بحماية النساء اللات فقدن رجالهن قبل أو أثناء النزوح، وهان هن يحملن ما يقدرن عليه؛ أطفالهن الرضع والذين لا يستطيعون المشي بعد، وكبار السن من العائلة والمرضى، فتزيد رحلة النزوح مشقة على مشقة.

في البعد المفهومي والدلالي

النزوح.jpg
رحلة النزوح التي تحملها معظم أعبائها النساء

عرف لسان العرب النزوح ومصدرها "نزح" بـ"نزح الشيء ينزح نزحا ونزوحا: بَعُدَ.. ونُزِحَ بفلان إذا أبعد عن دياره غيبة بعيدة، ويُعرّف النزوح اصطلاحًا بأنه حركة الفرد أو المجموعة من مكان إلى آخر داخل حدود الدولة رغما عن إرادة النازح بسبب مؤثر خارجي مهدد للحياة، كالمجاعة أو الحرب أو الجفاف والتصحر أو أي كوارث أخرى، تدفع النازح إلى مغادرة موقعه والتوجه إلى موقع آخر طمعا في الخلاص من تلك الظروف.

كما يُعرف النازحون بأنهم "الأشخاص أو مجموعات من الأشخاص الذين أجبروا على هجر ديارهم أو أماكن إقامتهم المعتادة فجأة بسبب صراع مسلح أو نزاع داخلي، أو انتهاكات منتظمة لحقوق الإنسان أو كوارث طبيعية أو من صنع الإنسان وهم لم يعبروا حدود أي دولة معترف بها دوليا".

ويخضع أغلب النازحين داخل بلدانهم للقانون الوطني وما يضمنه من حماية، كما يخضعون لقانون حقوق الإنسان الذي يسري في أوقات السلم وفي حالات النزاع المسلح كذلك، ومن الحقوق التي يضمنها السلامة الشخصية، والحماية من المعاملة المهينة أو العقوبة القاسية، والحق في السكن والمأكل والمأوى والتعليم والعمل، والحياة الأسرية وغيرها.

ويسري القانون الدولي الإنساني على النازحين في حالات النزاع المسلح، شريطة ألا يكونوا مشتركين في الأعمال العدائية. ويمنع القانون المذكور إجبار المدنيين على ترك محال إقامتهم لغير ضرورة السلامة أو ضرورة عسكرية ملحة.د النزوح بما هو انتقال قسري ﻟﻸﻓﺭﺍﺩ من مناطقهم أو بيئتهم وأنشطتهم المهنية، شكلا من أشكال التغيير الاجتماعي.

مشهد النزوح

اعتقال النساء
إحدى مشاهد النزوح من شمال القطاع 

تتصدر مشاهد النزوح المؤلمة من الشمال وبيت لاهيا على وجه الخصوص الواجهة، وهي واجهة مليئة بالغبار وضرب النار والقنابل وبكاء الأطفال، وزحف النساء الصامتات اللات يحملن ما لا طاقة لهن به. أكثر من مليون نازحة غزية ذاقت عذاب النزوح؛ منهن من نجت فاقت من هو أكثر مشقة ومنهن من فارقت الحياة إعدامًا أو مرضَا وتعبًا ومنهن من اختطفت؛ فلا تعرف إن كانت في عداد الأسيرات أو عداد المدفونات وهي على قيد الحياة إعدامًا.

يهيم المرء على وجهه إذا هُدد بالموت، يهرب بحثًا عن الأمن ولو كان في حده الأدنى، والحد الأدنى من العيش في غزة منذ السابع من أكتوبر هو التضور جوعًا والذويان مرضًا وبردًا، والتشرد والنوم دون غطاء أو مأوى وشرب المياة المالحة والعادمة.

يُخبَر الأهالي أنهم نزحوا من بيوتهم بعد أشهر من الصمود، أو مناطق الإيواء التي ظنوا بأنها آمنة أو ممرات المستشفيات التي ارتكتبت فيها المجازر مرارًا... لا يلتطقون أنفاسًا حتى تلقى عليهم مناشير التحذير الإسرائيلية "أخلوا المكان....". أخلوا المكان وإلا قتلتم!

وهناك حقيبة للنزوح حاضرة على الدوام: القليل من الطعام وبعض الملابس ... حليب وحفاضات الأطفال. تحملها المرأة على ظهرها، ظهرها الذي بات يشبه محملًا؛ الحقائب والأطفال، والمرضى والمسنين...

وحدهن يسلكن طريق الموت

الحمل والولادة في ظل الحرب على غزة.webp
تتحمل النساء أثناء النزوح مسؤولية أطفالهن والمسنين

أم نضال امرأة كبيرة بالسن نزحت من بيت لاهيا إلى وجهة مجهولة متعبة مرهقة مصفرة الوجه، تجلس على الأرض تقول: "نزجت وزوجي المريض وأطفال، لم نكد نمشي قليلًا إلا وهجمت علينا قوات الاحتلال وسحبته إلى مكان مجهول، وهو مريض بالكاد يستطيع المشي، بعد ساعات أخبرني الناس أنه ألقي وقد فارق الحياة... ما شأنهم به وهو عجوز مريض...".

ليست أم نضال من فقدت زوجها وحدها، بل أجمعت النازحات في شهاداتهن أن أزواجهن وأولادهن الشباب قد سحبوا أثناء النزوح في حواجز تفتيش أقيمت في الشمال. وهن يسرن تحت ضرب النار وقنابل الصوت والغاز لإرهابهن وإرهاب أطفالهن. مسرد النزوح ممتلىء بالنساء اللات يسحبن أطفالهن: الواحد والإثنين والثلاثة، ممتلئات بالغبار والأتربة والحقائب ويركضن إلى حيث لا يعلمن، ومن ورائهن العجائز، يقع بعضهم من شدة الإعياء دون أن يلتفت إليهم أحد من شدة الحصار.

وين أولادك يا حجة؟ تجيب حاجة مسنة على كرسي بأربع عجلات في ممر النزوح الذي تتدفق فيه مئات النساء والأطفال الهائمين، وهي تصرخ وتبكي "قتلوا ولادي، مضلش حدا"، هذه المسنة أعدم اولادها المعليلين جميعًا ولم يتبق لها أحد إلا رحمة النازحين رغم أن الواحد بالكاد يحمل نفسه وعائلته.

أطفال ضائعون

الهلع والخوف عند الأطفال في غزة.jpg
يضيع عدد كبير من الأطفال أثناء النزوح بسبب ضرب القنابل

يهجّر الناس بعد فصل الرجال عن النساء وتجبر النساء والأطفال والمسنون على سلوك طريق رملية طويلة محاطين بالدبابات وأسلحة موجهة نحوهم وطائرات لا تفارق رؤوسهم. يستنزف التعب والخوف والعطش وأنين الأطفال والمسنين النساء فيوشكن أن ينهرن طلباً للحظةٍ واحدة فقط من الراحة أو الأمن، لكن عليهن المضيّ قدماً خوفاً أن يطلق جنود الاحتلال النار عليهن، فيمضين متحاملاتٍ على قهرهن وغضبهن وتعبهنّ.

 ويرمين زاداً قليلاً احتفظن به بصعوبة وسط هذه المجاعة القاسية، مع إدراكهن أن حاجتهن لما رمين ستكون كبيرة في قادم الأيام، خاصة أن لا وجهة أمامهنّ، ورجالهنّ لا يعرفن ما حلّ بهم، وأطفالهنّ يبكون ولا حيلة لطمأنتهم، ومدارس النزوح التي إن حالفهن الحظ بإيجاد زاوية صغيرة فيها مع الاكتظاظ الشديد، تتعرض هي الأخرى لمجازر لا تتوقف.

عدد كبير من الأطفال ضاع أثناء النزوح، إما بين الأقدام بسبب الفزع والخوف من أصوات القنابل أو مشهد الدبابات المرعب. أو بسبب اعتقال الأب أثناء النزوح في غياب وجود الأم لاستشهادها أو انفصالها عنهم لسبب ما.

تنزح الأمهات والنساء والمسنات، فاقدات أزواجهن، حاملات مسؤولية حماية أطفالهن، متعبات منهكات، دب الأمرض في أجسادهن، والهم أغرق قلوبهن، فتجدهن يسرين بصمت لا يقوين حتى على البكاء.