بنفسج

طلاب في الخيام: العودة إلى التعليم الجامعي في غزة في زمن الإبادة

الثلاثاء 19 نوفمبر

التعليم في غزة مواجهة للتحديات
التعليم في غزة مواجهة للتحديات

في غزة لا رفاهية لك فتستلم، طالما ما زلت على قيد الحياة، مع تحفظنا على لفظ "حياة"، فالحياة في غزة تعني أن لا استقرار لك، تعيش وسط موت محتمل في أي لحظة، تركت أحلامك وطموحك مجبرًا منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولا تفعل شيء سوى انتظار أن يصلك الدور في طابور الموت المحقق.

 حتى بدأ الجميع يُجبر على العودة سواء للدراسة أو العمل ممن متاح لهم الدراسة أو العمل عن بعد، أي إلكترونيًا، فعاد طلاب جامعات غزة رغبتهم فور إعلان الجامعات العودة للتعليم الإلكتروني للرجوع لدراستهم فلا أفق لنهاية حرب قريبة، فليعودا على الأقل ليلحقوا ما فات من عداد العمر السريع.

الطالبة ياسمين ناصر وتحديات الاتصال بالإنترنت

 
الطالبة ياسمين ناصر تدرس الهندسة المعمارية في جامعة فلسطين: "كان من المفترض أن أكون خريجة في عام 2023، ولكن بفعل اندلاع الحرب تأخرت عن سنة التخرج.
 
فأصبت بحالة نفسية سيئة عندما طال أمد الحرب، وعندما أعلنت الجامعة عن العودة للتعليم إلكترونيًا بزغ الأمل في قلبي مجددًا.
إذ يمكنني أن أتخرج ولن أنتظر حتى تنتهي الحرب، فاتخذت القرار دون تفكير عميق في الصعوبات التي يمكن أن تواجهني".
 
بدأت ياسمين دراستها فكان الإنترنت والكهرباء حاجة ملحة بالنسبة لها، والاثنان لا يتوفران لديها بشكل دائم. حاولت قدر المستطاع أن تنجز مهامها الدراسية عبر الإنترنت من هاتف شقيقها الذي يدعم الشريحة الإلكترونية

حاورنا في هذا التقرير طلاب جامعات عادوا إلى الدراسة إلكترونيًا مع جامعاتهم، بينما هم ينزحون من مكان لمكان، وسط أزيز الطائرات العنيف، والغارات الشديدة، ورووا قصصهم والمعيقات التي تواجههم في التعليم الإلكتروني في ظل الحرب، عن صعوبة الحرب، والقهر الكامن في قلوبهم لضياع حاضرهم منهم.

الطالبة ياسمين ناصر تدرس الهندسة المعمارية في جامعة فلسطين، آثرت أن تعود للدراسة مع أن لا إمكانات كاملة تتيح لها العودة، فهي تقيم في شمال غزة وتحديدًا جباليا، سألها بنفسج ما الذي دفعك لاتخاذ قرار تسجيل الفصل إلكترونيًا؟ تجيب: "كان من المفترض أن أكون خريجة في عام 2023، ولكن بفعل اندلاع الحرب تأخرت عن سنة التخرج، فأصبت بحالة نفسية سيئة عندما طال أمد الحرب.

 وعندما أعلنت الجامعة عن العودة للتعليم إلكترونيًا بزغ الأمل في قلبي مجددًا، إذ مكنني أن أتخرج ولن أنتظر حتى تنتهي الحرب، فاتخذت القرار دون تفكير عميق في الصعوبات التي يمكن أن تواجهني".

بدأت ياسمين دراستها فكان الإنترنت والكهرباء حاجة ملحة بالنسبة لها، والإثنان لا يتوافران لديها بشكل دائم، حاولت قدر المستطاع أن تنجز مهامها الدراسية عبر الإنترنت من هاتف شقيقها الذي يدعم الشريحة الإلكترونية، تضيف: "في ظل انقطاع الإنترنت كان هاتف شقيقي بمثابة طوق نجاة بالنسبة لي، ولولاه لأجبرت على دفع 5 شيكل مقابل كل ساعة واحدة.

 فلا تسعفني لتسليم التكليفات المطلوبة أو البحث عن معلومات أو عن أي شيء أريده، ولكن عيبه  أنه يحتاج لمكان مرتفع حتى يلتقط الإشارة، فاضطر للصعود نحو الطابق الرابع واضع الهاتف لأخذ منه نقطة اتصال لهاتفي".

في أوقات كثيرة كان من الصعب عليها أن تصعد على سطح المنزل لتجلس لتسليم واجباتها أو تقديم امتحاناتها، بسبب الغارات الإسرائيلية الشديدة، وطائرات الكواد كابتر التي تطلق رصاصها بالقرب من منزلها، فتصعد للأعلى على درج المنزل وتبدأ بفتح اللابتوب الخاص بها لتقدم امتحاناتها، بعد فترة وجيزة من عودتها للدارسة نزحت من منزلها فانقطعت عن جامعتها، ثم عادت من جديد بعد استقرار الوضع.

حقيبة الدراسة ترافق كل نزوح

التعليم في غزة وتحدياته.jpeg

في الذكرى الأولى لاندلاع الحرب نزحت من منزلها بعد اجتياح الجيش الاسرائيلي لجباليا، لكن الجيد أن المكان الجديد به إنترنت فقالت: "مش مشكلة بقدم امتحاناتي هنا مدام في نت". لكن بعد يومين من نزوحها بمكان جديد، أجبرت وعائلتها للنزوح لمنطقة الشمالي غرب غزة، ولكن بمكان لا به شبكة اتصالات ولا إنترنت، وامتحاناتها بعد أسبوع واحد فقط.

بعد يومين من الاستقرار في مكان النزوح الجديد، بدأت ياسمين بالتفكير أين ستذهب لتقدم امتحاناتها، خطر لها هاتف شقيقها الداعم للشريحة الإلكترونية لكن الإشارة لا تُلتقط به، فيضطر شقيقها للذهاب لشاطئ البحر ليتصل بالإنترنت، ذهبت معه مرات عدة لتسليم تكاليف دراسية، لكن كان صعبًا عليها أن تجلس بالشارع وعلى البحر لتقدم الامتحانات.

تكمل: "أخبرني شقيقي أن بطاقات الإنترنت في حي الشيخ رضوان ما زالت تعمل، فخطر لي شقة خالي، قلت لوالدتي ما رأيك أن أقدم امتحاناتي النهائية هناك، ترددت في البداية للقصف المستمر على المنطقة هناك، لكن لم يكن لدينا رفاهية الاختيار، وأصبحت كل يوم لدي امتحان فيه أذهب سيرًا على الأقدام من الشمالي للشيخ رضوان لأنهي تكليفاتي الدارسية وامتحاناتي".

أنهت ياسمين الفصل الأول في سنتها الأخيرة بنجاح، والآن بدأ الفصل الثاني والأصعب، حيث مشروع تخرجها عن إعادة إعمار مجمع سكني بشكل مستدام، ولزامًا عليها أن تصمم عبر اللابتوب المجمع بكل محتوياته، وهذا يحتاج أن يكون جهازها متصلًا بالكهرباء بشكل متواصل حتى تنجز، تردف: "أقوم بشحن لابتوبي كل يوم بثلاثة شواكل، لدى محل لديه طاقة شمسية. 

وأعمل عليه لساعتين ثم ينتهي الشحن، وهذا لا يكفيني لإنجاز مشروع تخرج، أكون متوترة وأنا أصمم المجمع السكني الذي يحتاج لجهد وتفكير، وأخاف أن يفصل الشحن فيضيع مجهود الساعتين، لذلك مشكلة الكهرباء مسألة مرهقة بالنسبة لي".

تحاول ياسمين أن تنجر قدر المستطاع وأن تسلم التكليفات في الوقت المطلوب دون تأخير، تخبرنا أنه لولا دعم والدتها لها لكانت تراجعت في منتصف الطريق، لكن تشجيع أمها لها دفعها لمواصلة المسير نحو حلم العمر الكبير، فتقول لبنفسج: "والدتي كانت رفقتي دائمًا في كل مكان أذهب له لالتقاط إنترنت، تبدي مشورتها ورأيها في تصاميمي الهندسية، وتصحح لي كثير من الأخطاء".

ضحى عزيز طالبة صيدلة عن بعد 

التعليم في غزة.jpg

أما الطالبة ضحى عزيز تدرس الصيدلية بجامعة الأزهر، من شمال غزة وتقيم في جباليا، ولكنها الآن نازحة منها إلى حي النصر، بعد اجتياح الجيش للمخيم. بدأت رحلتها التعليمية مجددًا فور إعلان الأزهر العودة للتعليم الإلكتروني، تقول لبنفسج: "عند بداية عودة الدارسة كنت خائفة من التكليفات والمهام الدراسية، في ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت، لكن استطعت السيطرة على مخاوفي وإكمال سنتي الرابعة في الصيدلية على الرغم من صعوبة الأوضاع واستمرار النزوح".

تشرح ضحى كيفية توفيرها للكهرباء والإنترنت في ظل أزمة الأنترنت عند بداية الإعلان عن العودة للدراسة إلكترونيًا، فتضيف: "أذهب لنقطة إنترنت قريبة من منزلي، فأدفع للساعة الواحدة 5 شواكل، ثم بمرور الأشهر قل سعرها لتصبح الساعة بشيكل، والآن الخمس ساعات بشيكل واحد فقط فخف الضغط النفسي علي إثر غلاء سعر الاتصال بالإنترنت، أما الكهرباء أشحن هاتفي ولابتوبي عند محل للشحن، واضطر كثيرًا إلى شحنه أكثر من مرة يوميًا".

لم ترضخ ضحى وعائلتها لأوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا للنزوح من شمال غزة لجنوبه، فدفعت ثمن البقاء غاليًا، تنقلت كثيرًا في مشوار النزوح المرير، في بداية الحرب نزحت مرات ومرات، ومؤخرًا في الاجتياح الأخير لجباليا نزحت تحت النار لغرب غزة، فانقطعت عن دراستها، وساء مزاجها الدراسي، ولكن على الرغم من ذلك واصلت تسليم واجباتها وقدمت امتحاناتها.

وصادفت خلال مشوارها بالبحث عن نقطة إنترنت، صعوبات كثيرة أثناء تقديمها لامتحاناتها، تضيف: "في مرة كنت أقدم اختبارًا وأثناء تسليمي له فصل الإنترنت، فركضت لتسليمه في نقطة إنترنت أخرى، وأثناء وجودي بالمكان قُصف منزل قريب من مكاني، خفت جدًا وحمدت الله على نجاتي، لذلك أكون متوترة وأنا أجلس في نقاط الإنترنت، لكن بعد فترة توفر إنترنت البطاقات سهل الأمر عليَّ، حتى نزحنا من جباليا، وحينها بدأت مشوار آخر بالبحث عن مكان للإنترنت".

ما زالت ضحى التي تحمل كتبها وجهاز الحاسوب في كل نزوح، تكمل مشوارها التعليمي لتنهي السنة الخامسة والأخيرة في دراستها، وتأمل هي وياسمين أن تنتهي الحرب ليعودوا على ركام جامعاتهم ليدرسوا هناك ويلتقوا بكل أساتذتهم وزملائهم وليحتفلوا بالمشهد المنتظر لهن لحظة التخرج وهم يغنين: "ده مفيش فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحه". ويتمنين أن تنتهي المحرقة الأشرس في التاريخ الحديث، لتبدأ رحلة إعمار غزة من جديد.

ومن الجدير ذكره، أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد تدمير القطاع التعليمي، فمنذ بداية الحرب هدم جميع الجامعات الفلسطينية وعاث فيها خرابًا، وفي بداية سبتمبر/أيلول 2024 أعدت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية إحصائية للشخصيات العلمية والأكاديمية الذي قتلتهم "إسرائيل"، فكان عددهم 111 شخصية والعدد قابل للزيادة بسبب استمرار المجازر ضد الغزيون.

 وأبرز الشخصيات الذين قُتلوا رئيس الجامعة الإسلامية سفيان تايه، وأستاذ الأدب والشاعر رفعت العرعير، وأستاذ علم الفيروسات والمناعة محمد شبير، وغيرهم الكثيرون من الأكاديمين الذي لا يتسع المقام لذكرهم جميعًا. 

كما استهدف الاحتلال المدراس وطلابها وقتل عدد مهول من الطلاب وأساتذتهم، ودمر مدراس بالكامل، وجزء آخر بشكل جزئي، ويتعمد تجهيل الأطفال الفلسطينيين، ولكن يحاول الغزيون تدريس صغارهم بشكل فردي، أو إرسالهم لخيم التعليم الذي تتبع لمبادرات شبابية.