هذا فصل الشتاء الثاني خلال الحـرب علينا، على غزة، ماذا يعني بالنسبة لي؟ لقد مرّ فصل الشتاء الأول خلال الحـرب العام الماضي، أذكره جيدًا كنت أكذب كثيرًا على أطفالي، يختلط صوت القـصف بالرعد، فأقول "رعد، رعد يا حلوين، هيّا نردد "سبحان من سبح الرعد بحمده!" تختلط نار القنابل بالبرق، فأقول "وميض من السماء يسبق الصوت ابتهاجًا بالغيث اسمه البرق"، فيهدأ الصغار منتظرين المطر...
لكنّ السماء كانت تمطر حقدًا فوق رؤوسنا، كانت تمطر حممًا ونارًا، لقد مرّ ذاك الفصل بليله الطويل، المخيف، بفقدٍ بارد دون وداع، لقد مرّ دون حبيب على الأكتاف، كنّا نهرب من جثامين الأهل والأحباب، لا وقت لشاهدٍ وأكفان! كانت المرّة الأولى التي أتيمم فيها خلال الشتاء الماضي، أطبّق رخصة من رخص الله لنا، فلا ماء صالح للشرب ولا ماء للوضوء، كنّا نجمع المطر في جردل ثم نوزعه علينا، لا نرتوي، لا يرتوي أحدنا، لكننا كنّا نكذب كذلك، كنّا نقول لبعضنا "لقد ارتويت"!
في الشتاء الأول خلال الحـرب عرفت معنى الجوع، "الجوع بوجّع، يمّا ايش الجوع بوجّع، كمان الجوع بقهر"! لم نجد في شمال الوادي كسرة خبر واحدة، حتى أنني قدمت رسالة شكرٍ للدواب لأنهم أهدونا الشعير والعلف والذرة الخاص بهم، لقد ابتلعناه!
تقيأت مرة، وتمنيت الموت جوعًا حتى أشعر بآدميتي، بكيت وأنا آكل أول كسرة خبز بعد أشهر من الحرمان كما بكى خالد تاجا في مسلسل التغريبة الفلسطينية، أخبرتكم وقتها بأنني لن أغفر!
في الشتاء الماضي نمت في كوخ بلا سقف، استيقظنا ذات ليلة ونحن نغرق بماء المطر، خبّأت أطفالي تحت ذراعي، نقلتهم لزاوية أخرى لا يتسرب منها المطر، ماذا أفعل هنا، أين بيتي، أين فراشي؟، هل يشعر العالم بالدفء وأنا أرجف بردًا وخوفًا، هل يكترث أحد؟
في الشتاء الماضي قتلوا أحبابي، هدموا بيتي، خسرت عملي،في الشتاء الماضي كنت وحدي، مسبحتي في يدي، قِبلتي بوصلتي، تعلمت أبجديات الابتلاء، وعرفت معنى اليقين، الإيمان، الاستسلام المطلق لله، لأقداره.
لا يهم إن جاء علينا شتاء آخر، فصل جديد، لا أكترث الآن لشيء، أنتظر مقعدي في جنة الفردوس، لا آبه بمن يتعاطف معي، بمن أشعل شمعة في القطب الشمالي حتى أشعر أنا هنا بالدفء، لازلت أرجف، لا يهم، الدفء في دار السلام! هذا شتاء جديد، لقد تعودت على كل شيء، حتى الكذب!