في السابع من شهر أكتوبر أشرقتْ الشمس بضوئها كعادتها، وأشرقت معها مقاومتنا الأبية بمجدها وعزتها، كعادتها أيضًا، تاريخٌ لن ينساه العالم بأسره، تاريخٌ نعجز عن التعبير عنه، بل نخجل، فما الكلمات والحروف أمام قوة الفعل، وما القلم أمام البندقية، فقد أثبتت مقاومتنا فعلاً بأنّ "الكف لا تلاطم المخزر"، ولكن الكف تصنع المعجزات!
التاريخ لا يعيد نفسه، فلكلٍ منا حكايته الفريدة، قضيته المقدسة، تتشابه الشعوب وتتشابه المواقف والتضحيات، لكن لكل قضية أبعادها الخاصة، حتى وإن تشابهت ظاهريًا إلا أنها تختلف جوهريًا، كل البحار تتشابه في سطحها ولكن في باطن كلٍ منها كنوزها الخاصة، التاريخ لا يعيد نفسه، هو فقط يتشابه في ظلم الباطل وقوة الحق، التاريخ لا يعيد نفسه، ولكنا نحن نكتب التاريخ، نكتبه بمِداد عِزتنا ودمائنا، ثم ليس النصر أو الهزيمة هو نهاية المعارك، فسُنة التدافع بين الناس قائمة إلى يوم الساعة.
يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]
التاريخ لا يعيد نفسه، هو فقط يتشابه في ظلم الباطل وقوة الحق
ليس مطلوبًا منا القتال حتى النصر، مطلوب منا الجهاد، الجهاد والصبر، ثم الله تكفل بحفظ جهادنا ﴿وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ لتعرفه الأمم اللاحقة؛ فالتاريخ سيسجل تضحياتنا وإن لم يسجل انتصاراتنا، ستعرف الأمم قضيتنا، ستعرف كم أحببنا أرضنا، كم دافعنا عنها، كم أبقيناها جذوة مستعرة كلما انطفأت أوقدناها مرة أخرى، ستعرف وإن مِتنا أننا لم نمت إلا حبًا وفداءً للدين والأرض.
ستعرف كذبَ المحتل في قوله: "الكبار سيموتون والصغار سينسون" لم ننسَ حقًا، بقيت قضيتنا 75 عامًا بين مد وجزر، بين خريف وربيع، صيف وشتاء، كرّة لنا وكرّة علينا، ولكن الذي لم يتغير هو أننا على حق وأنهم على باطل، لم ننسَ يومًا، كلما غابت قضيتنا عن الأذهان أعدنا البوصلة إليها..
التاريخ لا يعيد نفسه، وإنما بِتنا اليوم ندرك جيدًا أن أجدادنا ما خرجوا من ديارهم إلا ليعودوا إليها ويعمروها، هاجروا ليكون أمامهم فرصة جديدة للمقاومة وللدفاع عن بيوتهم المسلوبة، خرجوا من ديارهم ليحدثونا عن التاريخ الذي زيّفه العدو.
أشرقت المقاومة مجدًا كعادتها، وبدأ المحتل هجومه الجنوني الهمجي كعادته أيضًا منذ 75 عامًا، حاولوا سرقة صورة النصر الذي حققناه في السابع من أكتوبر بتكبيدنا الكثير الكثير من الخسائر، حاولوا تغطية هزيمتهم بقتل أكبر عدد من المدنيين في محاضنهم الآمنة، كعقلية طفل يفكر أن من يخسر أكثر هو المنهزم، ومن يَضرب أكثر هو المنتصر!
قصفوا معظم الأماكن التي نحبها، نحن الذين لم نغادر غزة مُذ وُلدنا تعلقنا بمعالمها وصنعنا ذكرياتنا داخل كل مَعلم، مساجدنا، جامعاتنا ومدارسنا، في الشوارع التي مشيناها، بالمقهى الجميل ومحل الآيس كريم، حتى في مستشفى المدينة، كأن ذكرياتنا ترهبهم، أو أنهم يظنون أن تشويه المدينة الجميلة علّنا يوقفنا عن حبها، ولا يعلم وهو الجاهل أن المحب الصادق يحب حبيبه في كل أحواله، فنحن نحب فلسطين كما هي، كما كانت، وكما ستصير..
المحب الصادق يحب حبيبه في كل أحواله، فنحن نحب فلسطين كما هي، كما كانت، وكما ستصير..
يظنون من وهنهم أنهم بكل ذلك يوهنون عزمنا ولا يعلمون أنهم يزيدوننا قوة، جاهل هذا العدو وأحمق، لا يدري بأننا في كل الحالات فائزون، يقاتل شعبًا يرجو من الله ما لا يرجوه، الله مولانا ولا مولى لهم، شهدانا في الجنة وقتلاهم في النار. لم نتجاوز الحدود يومها مع المقاومين، ولم نُحلِّق إلى السماء أيضًا كما فعلوا لكنا استنشقنا هواءها من العزة التي شعرناها حينئذ، واشتممنا رائحة الأرض وهم يسجدون شكرًا لله، فالأرض واحدة من جنوبها إلى شمالها ومن غربها إلى شرقها. أفكر في كل ما حصل ثم أجدنا مثلنا مثل طائر في قفص، يومًا ما، حاول كسر قيده ونيل حريته التي هي حقه الأول والأساس فقوبل بكسر أجنحته، ولكنه سيظل يقاوم..