بنفسج

هدى عيد: احتضنت زوجة ابني الحامل وهي تحتضر

الجمعة 22 نوفمبر

هدى عيد شهادة في الحرب
هدى عيد شهادة في الحرب

بينما كانت تصلي المغرب وإذ بالبيت يهتز من تحتها والحجارة تتطاير عليها، لم تدرك بالبداية أنهم قصفوا، ركضت نحو ابنتها على باب الغرفة تتحسس رأسها إن كانت فيه أي فجوة فلم تجد، كانت الرؤية معدومة، أشعلت ابنتها الأخرى هاتفها لتضيء المكان، ركضت لتبحث عن البقية أريج زوجة ابنها وحفيدها.

 مشت بين الجثث المكومة بصالون المنزل وإذ بشخص تعرفه شهيدًا، ثم تلاه شخص آخر، حتى رفعت بصرها فوجدت أريج قرة عينها وحبيبتها كما تصفها، مكومة ورأسها كله من الجنب محفور حتى كتفها، لم تستوعب الصدمة، صرخت: أنقذوا أريج، حتى جاء زوجها ليحملها بين يديه لتصل المشفى، وما زالت هي تتساءل: "شو صار كمان وين باقي الأهل أنا وين أروح وين حفيدي محمد؟".

قصة اليوم تروي سيدة مكلومة حكايتها مع الموت، تحكي قصتها التي تشعل القلب نارًا لا تنطفىء، فماذا يعني أن تبحث بين الجثث عن أحبتك؟ ماذا أن يكون حفيدك بينه وبين الموت ثانية واحدة فقط وما بيدك حيلة سوى مراقبتهما! ماذا يعني أن تكون بين النيران المشتعلة. تحكي هدى في شهادتها عن حفيدها المصاب وزوجة ابنها التي اُستشهدت، وبناتها اللات ي تركتهن في غزة لأجل إنقاذ حياة حفيدها!

عن اليوم الذي لا يُنسى

شهادة بودكاست حلقة السيدة هدى عيد.jpg
هدى عيد شهادة في الحرب

في ليلة شتوية باردة كان من المفترض أت تقضيها هدى بأنس رفقة أريج زوجة ابنها وحفيدها كما اعتادوا، لكن في زمن الحرب لم تعد الأيام أيامًا ولا الحياة حياة، كانت هدى وأريج يرتجفن من رعبهن ويبكين خوفًا من الغارات الغادرة، حتى جاء اليوم المشؤوم الذي قُصف البيت الذي نزحن إليه بغية النجاة.

تقول هدى: "نزحنا في بيتنا الواقع على حدود غزة لمكان ظننا أنه آمن، لكنه لم يكن كذلك، واجهنا الموت مرات كثيرة، والمربعات السكنية تنهار من حولنا ونحن نلتف حول بعضنا في رعب، نبكي بخوف، قبل استهدافنا بأسبوع كنا نود أنا وزوجة ابني النزوح للجنوب بغية النجاة لكن بقينا مع العائلة، حتى قُصفنا في البيت الذي قلت أنه آمن، لم استوعب بالبداية أن الضربة لنا لكن تداركت الأمر سريعًا وبدأت ابحث عن الأهل وسط الركام".

قبل القصف بدقائق كانت هدى تصلي المغرب، وطلبت من ابنتها أن تنتظر بجانبها حتى تنهي الصلاة، وزوجة ابنها في الصالون تقرأ القرآن الكريم، وأثناء ذلك حدث القصف، تكمل هدى: "حسيت الدار اهتزت وباب الغرفة نزل الركام عليه وأغلقه، وأنا وابنتي جنبي تتطاير الحجارة باتجاهنا وصار السقف فينا زي المعرش تعريش مش واقع علينا بشكل كامل.

 قدرنا نطلع أنا وبنتي الصغيرة لبنتي الثانية على باب الغرفة بنتي ضوت كشاف الجوال أشوف أختها شو صاير فيها، لكن مشفتش إشي، صرت أحسس على راسها قلت الحمدلله مدام راسها سليم هي كويسة، طلعتهم وطلعت أدور ع أريج ومحمد". وفي خضم بحثها عن زوجة ابنها وحفيدها اندلع حريق في زواية من البيت لكن تمت السيطرة عليه.

 مشت خطواتها الأولى مصدومة من هول المشهد، جثث يعتليها الركام، رأت الجثة الأولى فعرفتها، والثانية أيضًا، حتى رأت رفيقة أيامها وحبيبتها، كما تسميها، متكورة في الزواية تنزف، وهي الحامل في شهرها التاسع، صرخت حتى جاء زوجها حملها وركض بها لإنقاذ حياتها. لم تدر السيدة هدى ما الذي تفعله! أتذهب مع أريج إلى المشفى أم تبقى مع بناتها المصابات، واللواتي لم يظهر لهن ملامح إثر السواد الذي اتشحت به وجوههن، ولكن حسمت قراراها وتركت بناتها في بيت الجيران وركضت إلى مشفى كمال عدوان حيث تبقى أريج. 

تكمل: "كان التحرك آنذاك صعبًا جدًا، غامرنا وركبنا السيارة أنا وابني واتجهنا نحو كمال عدوان من الطريق الذي نعرفه، لكن لم أعرف الشوارع من هول ما حدث فيها، كل ما فيها عبارة عن ركام، مناطق ومربعات سكنية مدمرة بالكامل، أخبرني ابني أنه تاه في الطريق، قلت له ارجع مرة أخرى، فقال لو عدنا سيتم استهدافنا بشكل مباشر، لندخل من الشوارع الفرعية، وبعدها وجدت نفسي أمام المشفى، فركضت أسأل عن سيدة حامل أتت في قصف منزل أحمد سمارة".

ووسط قلقها ورعبها على أريج، لم يجبها أحد، حتى سألها شاب عن البيت المقصوف فأخبرته التفاصيل، فقال لها: "سآخذك ولكن بشرط أن تبقي قوية صابرة شاكرة لله". فردت: "ستجدني صابرة لا أفعل ما يغضب الله". فأخذها نحو غرفة وجدت زوجة ابنها مستلقية على الأرض فيها والطبيب يحاول إنقاذها، سألته: هل ما زالت على قيد الحياة؟ فرد بالإيجاب. اطمئنت وخرجت من عندها لتجد حفيدها في حالة مزرية.

جبل المحامل

السيدة الفلسطينية هدى عيد تتحدث عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق عائلتها في غزة.jpg
هدى عيد تروي قصة مروعة عن استهداف عائلتها 

تقول هدى عيد: "تفاجئنا بحفيدي بوجهه المحروق ورأسه المنتفخ، لا عيون له، وحفرة كبيرة قطعت اللحم عن العظم في يديه، وقدميه وكل جسمه مليء بالشظايا، انتظرت معه حتى يأتي دوره في مدواته وقطب جروحه وتنظفيها، ساعتين ونصف كانت مدة انتظارنا انتقلت فيهما بينه وبين والدته. في المرة الثانية التي ذهبت فيها إليها لم أجدها، فأصبت بالهلع أسأل من حولي هل استشهدت؟ فأخبروني أنها حية ولكن تم نقلها إلى قسم الولادة".

لم يطاوعها قلبها أن تتركها لوحدها على الرغم من المسافة الشاقة إلى قسم الولادة، فالطريق مليء بأجساد المرضى على الأرض، ولكنها أصرت أن تذهب عند أريج علها تخفف عنها وتعطيها دفعة أمل، وجدتها على الأرض قبالة القسم؛ مسحت على رأسها وحادثتها، تكمل: "أنا متعبة ادع لي بالموت لأرتاح، تألم قلبي لأجلها، حركت رجلها كما طلبت عل ألمها يخف ولكنه لم يزل، وبينما أنا بجانبها كانوا يبحثون عن الوريد لتخديرها للولادة لكن لم يجدوه، سألت الطبيب "خلص ولادة" فقال: "كنتك مخلصة بدنا نحاول ننقذ البيبي".

بضع دقائق كان الحديث بينهما، سألت فيهما عن زوجها أحمد فأخبرتها حماتها أنه من حملها للمشفى، وظلت تطبطب عليها وتلقنها الشهادة، توقعت أن توصيها على طفلها أو تسألها عن أحد آخر لكن لم تفعل، دخلت غرفة العمليات ولم تخرج منها هي وجنينها المنتظر، فتوجهت هدى إلى حفيدها الذي وصله الدور في تقطيب جروحه، "تأخروا كتير لأنه كل شوي بتيجي سيارات محملة بالإصابات البليغة فش وسع وفش دكاترة كفاية ولا ممرضين لهيك طول دورنا".

أصرت الجدة أن تحمل حفيدها المصاب بكسر الجمجمة، والطبيب يفعل اللازم له، كلما صرخ من ألمه، تبكي هي عليه، تسأل الطبيب عن إن كانت يده ستبتر أم لا! وتناجي الله أن يحفظه. كانت إضاءة المكان خافتة بالكاد تضيء المشفى، والطبيب ما زال يؤدي عمله لإخراج الشظايا من رأس الحفيد، حتى شعره لم يحلقوه بسبب عدم وجود أداة للحلاقة، أما يده تم تخيطها بطريقة بدائية فلا أدوات ولا إمكانات لعلاجها بطريقة صحيحة، خلال تنظيف اليد بعظامها المتهتكة تحرك عصب اليد فاطمئنت الجدة قليلًا.

لاحقًا كتب الطبيب بضع مراهم وأدوية يجب توفيرها للطفل، في ذلك الوقت كانت معجزة أن يجد الإنسان دواء له، خاطر الأب بحياته وركب على دراجته الهوائية، ليبحث بين الصيدليات عن مراهم للحروق وقطرات للعين ومضادات حيوية حتى عاد بها لابنه.


ما قبل استهداف العائلة

شهادة بودكاست حلقة السيدة هدى عيد.jpg
ليلة ما قبل الاستهداف

تعود السيدة هدى لتحكي عن ليالي ما قبل الاستهداف، فتقول: "في بيت نسيبنا أحمد سمارة عشنا معه سويًا، حتى بدأت منشوارت الإخلاء تتساقط علينا بالمنطقة للإخلاء نحو الجنوب، صار يحلل بعض من في المنزل أن الحرب ستستمر لقرابة الأسبوعين وأنا أقول لا لا، حتى بدأ الخطر يتزايد حولنا، بتنا ننتظر القذيقة القادمة، نسمع قصف المربعات السكنية بالكامل فوق رؤوس ساكنيها، ونشعر بالرعب أكثر، في اليوم الخامس استيقظنا قبل الفجر بلحظات والبيت يهتز بنا، ظننت أن البيت الملاصق لنا ولكنه كان بيت لعائلة شهاب يبعد عنا قليلًا، اُستشهد فيه 67 شخصًا".

تضيف: "لم يستطع أحد منا الخروج في العتمة للإنقاذ، انتظر الكل حتى يبزغ ضوء النهار قليلًا، فطائرة الكواد كابتر لم تكن تترك أحدًا يتحرك ليلًا، خرجوا صباحا ونحن فتحنا النوافذ وإذ برائحة الموت تملأ المكان، كانوا يلمون الجثث بالأكوام فوق بعضها البعض ولم ينج من البيت المستهدف سوى 4 أو 5 أشخاص".

بعد هذا الحدث شعرت هدى أن الموت بات قريبًا جدًا منهم، صار الرجال يطمئنون النساء والأطفال فيخبروهم مع كل غارة أنه القصف بعيد عن البيت ولن يطالنا، فتقول هدى: "لما كانوا يقولو الخبطة بعيدة أقول لا كل خبطة بتصير بأهلنا وناسنا، كل رصاصة بتمزع قلبي مزع".

رحلة الجنوب والعلاج بالخارج

تفاصيل مروعة ترويها السيدة هدى عيد الناجحية من الإبادة الجماعية.jpg

قطعت السيدة هدى حديثها عن ذكريات أول الحرب وألم عانوه من ويلات، لتحكي عن إصابة حفيدها الذي كانت إصابته بليغة جدًا ويحتاج لاهتمام وعلاج مكثف، فتقول: "بقينا أربعة أيام في مشفى كمال عدوان والوضع يزاداد سوء، جاءت الهدنة المؤقتة، فجاءت ابنتي الصغرى والأحبة لزيارتنا، طلبت مني الصغيرة أن تبقى معي لتساعدني بحمود المصاب لكني رفضت، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأيتها بها، فقد توجهت للجنوب رفقة حفيدي ووالده بتنسيق من الصليب الأحمر، توجهنا لمشفى ناصر بخانيونس عبر حاجز نتساريم".

تردف: "في البداية رفض الصليب الأحمر خروجي معهم في الباص بدعوى أنه غير منسق لي أخبرتهم أني مرافقة مع ابنة خالتي وابني مع حفيدي مرافق أيضًا، وصلنا الحاجز وبعد انتظار ساعات وأنا في رعب كامل، دخلنا الحلابة للفحص، وبينما أغادر قال لي الجندي: "من ترتدي الأسود تلف وجه الولد علينا لنشوفه". خفت جدًا حتى قالوا لي غادري".

خلال الانتظار على الحاجز التهبت جروح الصغير المصاب مع أنه لم يكن يرتدي أي شيء سوى قطعة قماش قطن لفته جدته بها، حتى وصلت لمشفى ناصر وما بين الأطباء بدأ الطفل يتلقى العلاج في ظل أزمة أطباء شديدة، ورفض المشفى لتسجيل دخول له بدعوى أنه غير مستعجل، فرفضت الجدة رفضًا تامًا المغادرة حتى صادفت طبيب أخبرها أن حالة الطبيب ليست بالسهلة، وتم بعدها صدور التحويلة الطبية لتركيا ليعالج الطفل في الخارج، ولتكون جدته التي يرفض الصغير مفارقتها مرافقة له في مشواره العلاجي الصعب.
 


.