تملكها شعور بأن هذا الصاروخ مصوب نحو بيت شقيقتها "فداء"، فوقفت في منتصف الشارع ترتجف ارتجافة الخائف الذي فقد أعز ما يملك، وتردد: "فداء صارلها إشي هي الضربة إلها ولعيلتها"، أحسّت إحساسًا مؤكدًا أن شقيقتها أُصيبت بمكروه، وكأنها نصف روحها التي شعرت بها عندما ارتفعت إلى السماء.
لم تلق ممن حولها إلا نظرات الاندهاش، حتى جاء الخبر اليقين بأن فداء تحت أنقاض منزلها تنازع روحها، فبكت من عمق القلب وهي تنعى فقيدتها التي لطالما كتبت على جدار غرفتها منذ طفولتها "اللهم ارزقني الشهادة"، فاستجاب الله دعاء السنوات الماضية ليجعله حقًا في حرب الإبادة الجماعية.
تجري منصة بنفسج حوارًا مع ندر سقسقة الشهيدة فداء؛ لتخبرنا عنها واللحظات الأخيرة في حياتها، عن مستقبلها الذي هدمته "إسرائيل" ثم قتلتها رفقة طفلتيها ريتال وسارة، وعن عملها كمحفظة لكتاب الله.
"أختي فداء استشهدت"
في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 اخترق منزل فداء صاروخ إسرائيلي فقتلها على الفور مع طفلتيها، وكانت صائمة مرتدية ثوب الصلاة، تقول ندى، عن يوم استشهاد شقيقها، لبنفسج: "كنت في الشارع حينما سمعت القصف، فخطرت على بالي فداء فورًا وأخبرتهم أن ذلك الصاروخ استهدفها بشكل مباشر، فنظروا لي نظرات ملؤها الاستغراب، رجوتهم أن يهاتفوها لنطمئن.
في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 اخترق منزل فداء صاروخ إسرائيلي فقتلها على الفور مع طفلتيها، وكانت صائمة مرتدية ثوب الصلاة
كان حدسي يؤكد لي أنها شهيدة لكن لا دليل بعد، حتى أخبرنا شقيق زوجها أنه تم قصفهم واستشهدت فداء رفقة كل أطفالها ريتال وسارة وريتاج ومحمد الفاتح، بكيتهم طوال ليلتي حتى أشرق صباح آخر، لنكتشف أن محمد وريتاج على قيد الحياة مع والدهم المصاب".
لم تكن فداء مجرد أخت فقط لندى، بل بمكانة أم ناصحة وصديقة صدوق وقت الأزمات، على الرغم من أنها تزوجت وندى في عمر الخامسة عشر ة إلا أن الصغيرة تعلقت بها فكانت قدوتها الأولى على الدوام، مع كل نجاح لها تصفق لها وتهديها الهدايا التي تحب، ومنذ استشهادها تفتقدها ندى كلما حققت إنجازًا ما.
حزن والداها حزنًا شديدًا عليها، يصفها والدها ب "عمود الدار"، في ما سجدت والدتها سجدة شكر حينما اُستشهدت ورددت "طلبتها ونالتها الغالية". ولكن ما هون عليهم نجاة طفليها محمد الفاتح وريتاج، فكانوا وجه والدتهم المفقود في البيت.
تكمل ندى عن الصغيرين الناجين: "أُصيب كل من محمد الفاتح ووالده، أما ريتاج لم يكن في جسدها خدش واحد، فحمدنا الله على سلامتهم، لكن ما كدرنا كيف سنبلغ طفليها باستشهادها، لاحقًا أخبرناهم بهدوء عن أن والدتهم وأخوتهم بالجنة، فقال محمد البالغ من العمر عشر سنوات: "عارف أنه ماما بالجنة وهيا نفسها فيها من وهيا صغيرة إنا فرحان إلها كثير".
أما ابنتها ريتال 9 سنوات تسأل كثيرًا عن ما الأشياء المفضلة لوالدتها، الأكلات، الأماكن، في إحدى المرات شاهدت ابنة خالها تلعب مع والدتها، فركضت نحو خالتها ندى لتقول: "خالتو هلأ الشهيد ما بنفع نرجع نشوفه ونحضنه ونلعب معه".
فداء "الأخت والأم"
لم تحضر فداء من حرب الإبادة الجماعية سوى شهر واحد، فرحلت عن أشرس حرب في التاريخ، أكلها القلق في بداية العدوان الإسرائيلي على أهلها، تتصل لتبكي كلما اقتربوا من دائرة الخطر، في مرة حينما هُدد منزل قريب من بيت العائلة، هاتفت والدها وهي تذرف الدموع بغزارة: "أمانة يابا اطلع من البيت أمانة تعال عنا يابا".
تفخر دومًا ندى بأن لها شقيقة كفداء، وشقيقاتها الأخريات أيضًا، تكمل: "لدينا أخت من ذوي الإعاقة السمعية تأثرت جدًا باستشهاد فداء وأصبحت أكثر عصبية، تخبرنا بمدى اشتياقها لوجه فداء في الليالي الحالكة".
تخبرنا شقيقتها أن فداء كانت حريصة على بر والديها، تخصص لهم مساحة من الوقت شهريًا لتأخذهم في نزهة هادئة، وتفعل ذلك مع صغارها أيضًا، فكانت نعم الابنة والأم، تردف عن ابنتيها: "كانت خجولة جدًا رقيقة تشبه والدتها، كلما تراني تطلب أن نلتقط الصور سويًا، أما سارة صاحبة العام والنصف اُستشهدت بعد ساعة ونصف، كل من يراها يحبها وتجذبه بفطنتها وشقاوتها".
لم تنس ندى الحضن الأخير من الصغيرة ريتال، فعانقتها عناقًا طويلًا ولم تعلم أنه الأخير، تقول لبنفسج: "كتير مفتقداهم لكن ضل النا من ريحتهم ريتاج ومحمد الفاتح، ضلوا عنا أول أسابيع من استشهاد أمهم فهونوا علينا كتير، بعدين انتقلوا لبيت أهل أبوهم وبجونا زيارة من وقت للتاني وبكل مرة بكون مشتاقة اشوف فداء فيهم".
في سيرة شهيدة
تحكي ندى عن سلسلة نجاحات شقيقتها الشهيدة، فقد حصلت على معدل عال في الثانوية العامة، وحفظت القرآن الكريم في الإعدادية، اختارت دراسة الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في غزة، وحصلت على امتياز في كل فصولها الدراسية، على الرغم من زواجها في السنة الجامعية الثالثة، وإنجابها لطفلها البكر محمد الفاتح ثم التوأم ريتال وريتاج.
نظمت وفاء المظلوم دورة "القاعدة النورانية" لـ50 طفلًا وطفلة بشكل تطوعي، وقدّمت لوظيفة محفظة قرآن في المسجد
وأخيرًا سارة. تكمل شقيقتها لبنفسج: "كانت تسعى لإكمال الدراسات العليا، قبل استشهادها بشهر واحد فقط، نظمت دورة "القاعدة النورانية" لـ50 طفلًا وطفلة بشكل تطوعي، وكانت مقدمة لوظيفة محفظة قرآن في المسجد لكن لم تقبل من أول مرة، فأصرت على التقديم مرة أخرى علها تنال حلمها الذي لطالما أرادته، لكن اندلعت الحرب وانتقلت فداء إلى رحمة الله".
ثابرت طوال حياتها فأخذت دورات تأهيلية حتى وصلت للسند المتصل، تشجع من حولها للنجاح والمضي قُدمًا نحو الأهداف، فتقول لندى: "يختي خليكي دايما متفوقة، اوعك تيأسي هتكوني أجدع إعلامية". فظلت كلماتها تتردد في أذن شقيقتها تعينها على معترك الحياة في ظل حرب الإبادة الجماعية.