تأخرتُ كثيرًا في قص هذه الحكاية العجيبة، فبعد فاجعة تدمير منزلنا فوق رؤوس ساكنيه، بقي تحت أنقاضه 13 جثمانًا طاهرًا، وكان العجز وقلة الحيلة وكثرة المجازر هي موانع عدم تمكننا من دفن بقية أهلي، في فجر ذلك اليوم، الرابع عشر من المجزرة، استيقظتُ مع أذان الفجر وفي داخلي إلهام يخبرني بمكان زوجة أخي الشهيدة ياسمين، فصليتُ الفجر ومكثتُ قليلًا أتفكر في هذا الإلهام الغريب المفاجئ!
سألتُ أخواتي الناجيات عن آخر لحظات الشهداء وأماكنهم بدقة قبيل استشهادهم، ففهمتُ أن مكان ياسمين هو أسهل ما يمكنني الوصول إليه من بقية أماكن جثث أهلي الساكنين في أنقاض منزلنا المدمر، ثم تسهلتُ نحو منزلنا مع السادسة صباحًا، وبدأتُ رحلتي المعتادة للبحث في الأنقاض الضخمة عن جثة هنا أو بقايا جسد طاهر هناك أو أي أملٍ للحياة..
في هذا اليوم أنا أبحث وحيدًا متيقنًا من مكان ياسمين، فوقفتُ حينها فوق الأنقاض وقدّرت المكان بالتقريب ثم بدأتُ بيدي وأصابعي وأظافري أحفر وأرفع الحجر تلو الحجر، والردم يتلوه الردم، وكلما رفعتُ شيئًا انهار بعض الركام مجددًا، ومكثت ساعتين وأكثر وقد رفعتُ عشرات الحجارة المتراكمة بعضها فوق بعض، وقد أعطاني الله قوة عجيبة مع ضعف جسدي وقلة حيلتي.
حتى نزلتُ إلى أطراف الطابق الذي كانت فيه ياسمين وصغيرها أسامة وأختي ماريا وصغار أختي أسماء آية وعبد الله حسب وصف أخواتي الناجيات، وبالتحديد وجدتُ قطعة من بلاط منزلنا الذي قربني أكثر، ثم أكملتُ الحفر وحيدًا، حتى وصلتُ إلى طرف الفراش الذي كانت تتمدد عليه ياسمين!
بدأتُ أتيقن أكثر فأكثر ثم نزلت من فوق الركام مسرعًا فأخبرت أخي بوصولي إلى جثمان زوجته، فرفض بادئ الأمر التجاوب معي وقد تمكن منه اليأس وهو يردد: "أنا كل يوم بدور ومش لاقي اشي!"
فأصررتُ عليه إصراري العجيب يومها حتى قام معي ومعنا بعض أقاربنا، وبدأنا نكمل الحفر مجددًا، حتى جائني اتصال ضروري فغادرتهم مدة ساعتين تقريبًا، ثم رجعتُ فوجدتهم قد أخرجوا معظم جسدها الطاهر من بين الأنقاض وبقي طرف قدمها عالقا وهم يحاولون بدقة وعناية خوفا من تمزق قدمها، ومكثت المحاولة طويلًا، حتى رأيتُ قطعة حديد متهالكة فجلبتها، وقلتُ نحاول بهذه، فقالوا هذه لا تنفع، فأصررت وقلت دعوني أكمل مهمتي، فبدأتُ باسم الله، ثم ضربت بهذه القطعة مرة واثنتين وثلاثة، حتى كبرنا، الله أكبر الله أكبر، الحمد لله خرجت قدمها سالمة.
اكتمل إخراج جسدها، فتجددت مشاعر الحزن والرعب في داخلي وابتعدتُ قليلًا وأنا أشكر الله على توفيقه وإلهامه، حتى أكرمناها ودفناها بصعوبة إذ لم نجد قبرًا ولا مكانًا فارغًا وكان الخوف والقصف ينتشر في كل زاوية حولنا.في الصورة يد الشهيدة ياسمين وهي ترفع أصبع السبابة وقد أدركت لحظة الشهادة التي كانت تتوقعها وتتحسب لها، فرفعت أصبعها تذكر الله وتختم حياتها بأفضل ما يكون، ماتت مثل بقية أهلي مظلومة مغدورة ذاكرة لربها.
استمرت مهنتي في البحث بين الأنقاض مدة 20 يومًا في منزل أهلي، ويوما واحدًا في منزل أختي الشهيدة وسام باحثا عن جثتها وجثة زوجها وابنها، ثم قدر الله لي الإصابة في اليوم التالي لاستشهاد أختي، وانقطعتُ عن هذا العمل الذي كنت مرغمًا عليه ومحبًا له ومتشوقًا لرؤية أيًا من ملامح أحبابي الشهداء.