في المشرحة وبجانب ثلاجة الموتى ارتجفت ارتجافة لم تعهدها في حياتها، تصابرت وصمدت لأجل رسالتها التي غامرت بحياتها لأجلها، لم تبكِ عيناها وهي ترى الجثث المحترقة والمتحللة، والأكياس المليئة بالأشلاء، بل بكى القلب بكاء المحترق على أوجاع العباد والبلاد، انقطعت أنفاسها وهي ترى المكلومين وتحاورهم عن قرب والعين بالعين، هزتها صرخاتهم، وتخيلت نفسها مرارًا وتكرارًا مكانهم. رأت في وجوه كل الأطفال الذي ربتت على رؤوسهم في حوارتها الصحافية المصورة وجوه أطفالها الثلاثة.
يستضيف بنفسج ضمن سلسلة صحفيات تحت خط النار مراسلة الجزيرة مباشر علا أبو معمر، التي لم تغطي حرب الإبادة الجماعية منذ اليوم الأول، بل بدأت العمل في منتصفها، وأصرت على إيصال صوت الغزيين المكلومين عبر تقاريرها المصورة، لتحكي لنا عن يوم من العمل الإعلامي في الحرب، وعن أطفالها، وأصعب المشاهد التي عايشتها.
هل سأعود بالكفن لأطفالي؟
تعمل علا في مجال الصحافة والإعلام منذ ما يقارب السبع سنوات، صادقته وأحبته ووهبت حياتها لأجل رسالة تنقلها بصوتها، في حرب الإبادة الجماعية سنحت لها الفرصة أن تعمل في قناة الجزيرة مباشر، فحملت روحها على الكف وركضت تبحث عن حكايا المكلومين الذين فقدوا أعز ما يملكون، تقول لبنفسج: "لم نشهد كهذه حرب أبدًا، ولا هكذا إجرام، فأن أخرج من منزلي لأجل التغطية الإخبارية وأنا أعلم أنه في أي وقت من الممكن أن أعود بالكفن لصغاري أو أن أعود للبيت فأراهم قد أصيبوا بمكروه ذلك يؤرقني، فكرة العناق الأخير قبل الخروج لعملي بحد ذاتها مؤلمة".
علا واحدة من الغزيين الذين عايشوا المأساة لعام ونيف وهم يعيشون حياة لا تشبه الحياة، وهذا منعها من العمل في بداية الحرب لكثرة نزوحها وتنقلها مع أطفالها، فاختارتهم هم لأجل أن تكون معهم، ومع استقرار الأوضاع قليلًا في خانيونيس بدأت العمل، فتضيف عن مشوار النزوح: "نزحت حوالي 4 مرات من خانيونس لرفح والعكس ثم للوسطى ثم مرة أخرى لمسقط رأسي خانيونس، وكل نزوح له حكاية نجاة من الموت، أذكر خلال نزوحنا في رفح قضينا ليلة من الجحيم واجهنا كل أنواع الطائرات وسمعنا أصوات قصف لم نشهده من قبل، فخاف أطفالي كثيرًا ولم ينم أي منا تلك الليلة، عرفنا لاحقًا أنها كانت عملية لتحرير أسيرين إسرائيليين، لذلك قامت القيامة ولم تهدأ حتى انتهوا من العملية".
عندما يُذكر أمامها لفظ النزوح يتوارد لذهنها كل الأحزمة النارية التي عاشتها، ووجوه الناس المرتعبة وهم يركضون بعيدًا عن الغارات الإسرائيلية العنيفة، تكمل لبنفسج: "من الليالي العالقة بذهني من ذاكرة النزوح يوم أن بدأت عملية خانيونس إذ عشنا ليلة دامية ننتظر بزوغ الفجر لننزح من أماكننا، يومها أخذنا أمتعتنا وخرجنا، جلست بجانب النافذة بالسيارة، وحينها رأيت الأهل وهم يرددون "وين نروح"، كان المشهد قاسيًا جدًا، أعادني لعلا الطفلة التي كانت تستمع لحكايات جدتها عن عام النكبة والتشريد، فرأيت المشهد الذي لطالما تخيلته في طفولتي واقعًا أمامي أعيشه أنا وأطفالي".
من الذاكرة الصحافية "أقسى المشاهد"
ما هو التقرير الصحافي الذي أعددته وكنت منهكة من هول المشهد؟ تجيب علا لبنفسج: "كنت أصور مع سيدة من ذوي المفقودين، فقدت زوجها ولا تعلم عنه أي شيء، انهارت أمامنا جميعًا تبكي وتصرخ وتسأل من يدلها عليه، من يوصل خبر ما عنه، هي تبكي على الشاشة ونحن نبكي خلفها، أبكت كل الموجودين بلا استثناء، أنهكت يومها وفقدت قدرتي على التحمل، بعدها ذهبت للمشرحة لإكمال التقرير المصور، فرأيت بعيني الجثث المتحللة والمجهولة الهوية، فقلت لوهلة ربما يكون أي منهم هو زوج تلك السيدة، ستنهار حتمًا عندما ترى هذه المشاهد، قطعت تفكيري فيها وضغطت على نفسي بأعجوبة لأنهي بكائي، وأواصل لإتمام تقريري".
تحاول علا جاهدة أن تدواي نفسها بنفسها بكل المرات التي تشتم رائحة الموت في حكايا الفاقدين، تنجح مرات وتخفق مرات أخرى، تجزم أنه ليس باليد حيلة فلا وسيلة لتجدد طاقتها طالما مسبب الألم متواصل وما زال منذ أكثر من عام، تردف: "ما بقدر أتجرد من إنسانيتي أبدًا خلال تقاريري لكن هاد ما بأثر على الأداء المهني، باخد ساعة مسائية بقضيها بصمت، بحاول الاسترخاء ولكن الزنانة ما بتتركنا نضل قاعدين بهدوء".
أما عن نجاتها من الموت المحتم فقد نجت كثيرًا هي وعائلتها طوال عام الإبادة، ومن المرات التي تذكرها جيدًا يوم أن اُستهدف البيت الملاصق لبيتها، فتقول عن ذلك اليوم لبنفسج: "تم قصف منزل خالي الذي هو بجانب منزلنا تمامًا، كان الاستهداف عنيفًا جدًا دمر بيته تمامًا وتأثرت كل المنازل المجاورة أيضًا، كان مشهدًا صعبًا للغاية وأنا أرى البيت على رؤوس ساكنيه، يستخرجون الجرحى والشهداء أمام عيني، خفت على خالي وبقيت أتأمل أربع ساعات أن يخرجوه حيًا لكن للأسف تم إخراجه من تحت الركام شهيدًا، يومها نجوت أنا وعائلتي الصغيرة لكني فقدت الغالي كما أحب أن أناديه".
ماما "علا"
أخبرينا عن "ماما علا" وكيف توزان بين عملها الصحافي وأمومتها؟ تجيب لبنفسج: "قبل خروجي من منزلي للتغطية الإخبارية أفعل لأطفالي كل ما يلزم، ثم أحتضن الثلاثة سويًا وأعدهم أن أعود وبيدي حاجيات لهم، فيبستمون لي ويلوحون لي بأيديهم، وأغادر وأنا أضع يدي على قلبي خوفًا من استهدافي المباشر كصحافية، أو استهداف منزلي، فالكل مستهدف هنا بلا استثناء وهذا يدعوني للخوف والتوتر الدائم".
تنهي علا يومها في التغطية وهي مرهقة وتعود لبيتها المتضرر الذي عادت له مؤخرًا، لتجد أطفالها يقومون كعادتهم بتقليدها، "علا أبو معمر.. غزة.. فلسطين" ويرددون بعض الجمل الأخرى التي تحكيها علا خلال تقاريرها، وهم يمسكون أي شيء بأيديهم على اعتبار أنه "مايك". فتبتسم من قلبها على المشاكسين الصغار الذين يجيدون تقليدها.
تخبرنا عن أصعب المواقف التي واجهتها مع آخر العنقود البالغ من العمر 4 سنوات، فتقول: "كنا نازحين لمدة 5 أشهر برفح، أتى لي وهو يقول "ماما متى بدنا نرجع على خانيونس بدي أحضن دبدوبي اشتقتله كتير"، آلمني قلبي عليه، فقد سألني السؤال الأصعب الذي لا يعرف أحد إجابته، اكتفيت بعناقه وقلت له: "عن قريب يا ماما".
أن تكوني أمًا يعني أن تشعري بالألم مضاعفًا مع كل غياب عن أطفالك، مع كل غارة عنيفة، علا حين تحاور الأطفال في تقاريرها الذين فقدوا أحد والديهم أو الاثنين معًا ترى فيهم أطفالها، وتستعيذ بالله من الفقد وحرقته، تضيف لبنفسج: "أكون حزينة جدًا وأنا أحاور الأطفال تحديدًا، فهم الأكثر تأثيرًا بي، أحزن على كل شيء على حال البلاد والعباد، ولكن حين أغطي بعد المبادرات التي تدلل على التمسك بالحياة أشعر ببعض الأمل، أننا سنعود لتلك الأيام القديمة الخالية من الحرب والموت".
هل ستأخذ علا هدنة من العمل الصحافي بعد انتهاء الحرب؟ تجيب علا بصوت ثابت: "بالتأكيد لا لن أخذ لا هدنة قصيرة ولا طويلة، سأبقى على رأس عملي أواصل التغطية والحديث عن الفاقدين وإبراز أكبر قدر من قصص الغزيين، إن تعبنا نحن الصحافيين وأخذنا هدنة مع النفس من سيكمل الطريق؟ من سيفضح جرائم الاحتلال؟ ربما ننجز 99 قصة لا تؤثر أي منها في العالم في ظل حالة الخذلان، ولكن القصة ال100 هي التي قد تؤثر وتحدث الفارق، يجب علينا أن لا نتوقف عن الحديث عنا مهما حصل".