بنفسج

لينا قفة: عن موت أطفأ نور عائلة بأكملها

الأحد 08 ديسمبر

لينا قفة: نموذج عائلة أبيدت
لينا قفة: نموذج عائلة أبيدت

لم يدع الموت باباً في غزة إلا وطرقه، يسلبُ حبيباً ثم يرحل إلى آخرين، يُكرر قرعه منذُ عام، فيما قلوب الفاقدين في ازدياد، يُجاورون آلامهم بالصبر الشديد، ويتمنون للحظةٍ أن يُخطئهم وحش الموت السريع.

قبل عام، كانت لينا قفة (27 عامًا)، من مدينة دير البلح جنوب غزة، تعيش حياةً مكتظة بألوان الرضا وأطياف السعادة، برفقة زوجها وشريك عمرها أحمد سلمان (34 عامًا)، حيث صنعا مملكة من الحب، يكسوها الود ويغمرها الأمل في مستقبلٍ فريد وعمرٍ مديد.

تسعة أعوامٍ عاشتها لينا برفقة أحمد، كانت خفيفة جداً على قلبها، كالمسك الذي مر على روحها، مليئة بالحب لأطفالهما، يغزلان معاً ملامح الحياة القادمة وتفاصيلها الجميلة.

موعد الرحيل

يوم وداع الشهداء.jpg

في الرابع والعشرين من مارس/آذار 2023، في شهر رمضان المبارك، خرج أحمد كعادته كل يوم برفقة أطفاله الثلاثة، عارف وسارة وعبد الرحمن، إلى بيت والده المجاور، لأداء صلاة التروايح وقراءة وردهم القرآني الجماعي بعدها، ولأول مرة تعذر ذهاب لينا معه بسبب وعكة صحية.

فجأة، ودون سابق إنذار، أطلقت طائرات الاحتلال الإسرائيلي صواريخها الحاقدة على بيت الجد عارف سلمان، ليرحل أحمد وأطفاله الثلاثة، برفقة والدته وشقيقاته الثلاثة آلاء، وأسماء، ولمى.

وعن مرارة هذه اللحظة تصف لينة لـ "بنفسج": "نزل الصاروخ كصاعقة على قلبي، كنت في البيت المجاور، للحظة لم أصدق أن هذا الصوت يخص حياتي أنا، عائلتي، كل ما أملك، لكن شيئاً في داخلي انهار، كأنني أدركت حينها أن الحياة كما أعرفها انتهت".

ومع هذه اللحظة تماماً، فتح الفقد أبوابه على مصراعيه أمام لينا، حين تحولت من أمٍ تطبع قبلتها على وجوه صغارها، ورفيقة تخطط مع شريكها تفاصيل الغد، إلى امرأة تقف بين الركام، تبحث عن بقايا حياة وأشلاء قلب.

ثانيةٌ واحدة، كانت فارقة في حياة لينا، انقلبَ بعدها كُل شيء، وغدا واقعها بضعُ ذكريات، تحدثنا لينة عن آخر أيامٍ بصحبتهم: "كانت أيامًا مختلفة تماماً، وكأنها هدية مؤقتة من الله قبل أن يحين الوداع، كل لحظة فيها كانت مليئة بالحب والسكينة؛ سلامٌ لم أعهد له مثيلًا، ودفءٌ غمر قلوبنا، لا أستطيع وصف التفاصيل؛ فكلما حاولت تخنقني الذكريات، كانت جميلة، جميلة بشكل لا يوصف، لكن الآن، بات كل هذا الجمال يمزق قلبي”.

"عارف" أول الأحفاد

عارف ابن لينا.jpg

تفتتح لينا تعريفها لأطفالها بفقيدها عارف (9 سنوات): "فرحتي الأولى، أول من وهبني الأمومة، بهجة الأحفاد والأحباب، قطعة من قلب أبيه، يحمل حنكته وحكمته رغم صغر سنه، الملقب بأبى أحمد الصغير، كان يسألني عن كل شيء، وكأنه يسابق الزمن ليصبح رجلاً قبل أوانه، لم يكن مجرد طفل، كان سندي في البيت، يُعينني على أعباء الحياة اليومية".

وتخاطب قلب صغيرها بشوق"أما الآن ماذا أفعل إن اشتقت إليك؟ ماذا أجيبُ حضني الفارغ وقلبي المفجوع؟ لمن سأعِد البيتزا التي كنت تحبها؟ مع من سأقضي وقت يومي الطويل؟ مَن سيرى الحزن في عيني من بعدك ويعانقني؟ مَن سيقول لي أنتِ أجمل ماما بالدنيا؟ من سيعود من مدرسته متشوقاً للعب؟ ومن سيحصل على المعدّل الكامل ليسعدني؟ من سيحفظ القرآن ليلبسني تاج الوقار؟، من سيُجيبني عن كل هذا يا عارف؟".

"سارة" فراشة البيت

سارة ابنة لينا.jpg

"أما مدللتي سارة، (7 سنوات)، فراشة البيت، حبيبتي المدللة، ورفيقتي الأنيقة، في عيدها السابع كانت الحياة تضحك بين عينيها، لم يكن هناك ركن في البيت إلا وقد طبعته بابتسامتها، كانت تملأ المكان بالبهجة كأنها نبعٌ لا ينضب، حلمتُ لها بطفولة سعيدة، خالية من صخب الحرب ودخانها، لكنها كانت أكثر براءةً من هذا العالم القاسي".

"أين أنتِ يا سارقة قلبي، وآسرة فؤادي، وأنيستي في وحدتي وأيامي، وبهجتي في كل لحظاتي، كم طال البعد يا سارة، كم حنّ الفؤاد لضحكتك،لبكائكِ، لدلالكِ، لحضنكِ الدافى، لتهرّبك من الدراسة، أما آن لكِ يا حبيبتي أن تزوريني، أنا أمكِ التي كان يقلقني غيابكِ عني لدقائق معدودة، أنا أمك التي لم ترضى قبل ذلك بالقليل، أرضى اليوم به وأطلب منكِ أن تأتيني في المنام ولو للحظة واحدة، لعلي أشبعٌ حنيني إليك، وأطفىء نار الشوق في قلبي".

"عبد الرحمن "الصغير المدلل

لينا قفة فقدت عبد الرحمن.jpg

أما عبد الرحمن (5 سنوات)، صغيري المدلل، لم يكن يفارقني لحظة أينما ذهبت، كان يتشبث بي بيديه الصغيرتين كأنه يحتمي بي من كل مخاوف الدنيا، كانت ضحكته تُسكن كل أوجاعي، وكان قربه يذكرني أن الحياة رغم قسوتها يمكنها أن تكون جميلة طالما احتضنت أولادي".

وفي لوعةٍ يمزقها الحنين تقول: “اشتقتلك يا ماما كثير، اشتقتلك يا عبد الرحمن، اشتقت أسمع كلمة بحبك منك. كنت خايفة بالحرب أموت قبلك، تحكي لي: إذا انتِ رحتي شهيدة وأنا لأ، رح أقتل حالي لأني ما بقدر أعيش بدونك. كل الي بعرفهم يموتوا، بس انتِ ضلك معي. رحت يا حبيبي يا حنون وتركتني لحالي بالدنيا القاسية”.

"أحمد" رفيق العمر

قفة فقدت زوجها أحمد.jpg

فيما تصف لينة رفيق عمرها، وأنيس قلبها أحمد (٣٤ عاماً): "عاش وترعرع في بيوت الله، وعلى موائد القرآن، وحمل جُل القرآن في صدره، وأجيز بالسند المتصل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) في التلاوة والتجويد، وكان حريصاً على صلاة الجماعة رغم انشغاله الدائم، ما أن يعود من عمله ويستريح قليلاً، حتى يُسارع إلى مصحفه ليقرأ ورده من القرآن".

وتضيف: "ما كنا نرى أحمد كثيراً، وما كنا نحظى برؤيته إلا لحظات قليلة، ربما ساعتين أو ثلاث في اليوم، دائما منشغل ما بين عمله مع أبيه في مستودع الأدوية، وما بين عمله في ميادين الجهاد، كان هيناً ليناّ، صاحب الوجه البشوش، القريب من القلب، والمشهود له بالخير، واصل الرحم، البار بوالديه، الحنون مع أخواته، المتفهم للجميع".

وعن سيرته تتابع: "كان صاحب الصدقات الخفيّة، والتجارة الرابحة مع الله، ما كان في جيب أحمد لم يكن ملكه، كان كريما جداً، سخيًاً، معطاءً، لا يترك ميدان صدقة ولا فعل خير إِلَّا ويسابق إليه، عرفت عنه القليل وجهلت الكثير، لأنه أسس تجارته مع الله وأخفاها عنّا، حتى عرفنا بعضها بعدما ارتقى من أفواه الناس، وبقت معظمها خبيئة بينه وبين الله".

وتقاطع حديثها مستدركة: "دائمًا ما كان يقول لي: هذا امتحان، وإذا أحب الله عبده ابتلاه، كان يحلم بالشهادة، كان يقولها بصدق، لكنه لم يخبرني أبدًا كيف سأكمل وحدي إذا جاء يوم ورحل؟".

تعيش لينا أياماً صعبة بعد رحيل عائلتها، وعن كيفية تجاوز هذا الحجم من الألم تقول والحزن يثقلها: “لا أملك خيارًا سوى الاستمرار، الحياة تمضي رغمًا عني، رغم ألمي، ورغم هذا الفقد الذي يحاصرني، لكن الحقيقة أنني لا أمضي شيئًا بدونهم؛ هم معي دائمًا، في قلبي وذاكرتي ودعائي، في كل حركة وسكون، كل يوم أعيشه هو محاولة شاقة لحفظ ذكرياتهم وإبقائها حية”.

لا تكتفي لينا بالاحتفاظ بذكرياتهم لنفسها، اعتادت أن تنشر صورهم وقصصهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لتؤكد "هم ليسوا مجرد أرقام، أنا أُبقي ذكراهم حيّة ليعرف العالم من كانوا، وليظلوا جزءً من هذه الحياة التي قُطّعت أوتارُها عني فجأة”.

وعن ثقل هذا الاختبار على قلبها تقول لينا: "كانوا حياتي كلها، بهجتي وسر سعادتي، نور عيني اللتين أبصر بهما هذا العالم، الآن رحلوا جميعهم وأخذوا معهم كل ألوان الحياة، وتركوني في ظلام دامس، كأنني فقدت عينيّ، فلا شيء أراه إلا فراغًا هائلًا يبتلعني، كيف أعيش بعدهم؟ ما قيمة الحياة حين تُسلب منك كل أسباب الفرح وتُختزل إلى ذكريات تؤلم أكثر مما تسعد؟".

ماذا تقولين لمواساة قلبك؟ تجيب لينا وهي تحاول أن تلملم شتات نفسها: "هذا ألمٌ يعصر القلب، جرحٌ غائر لا يبرأ، ولا يندمل مهما مرّ عليه الزمن، أعيش معه كل لحظة، وكأنه ينهش روحي بلا رحمة، لا أملك أن أتصالح معه، لكنه جزء مني الآن، وسبيل تحمله الوحيد هو لطف الله وصبره الذي يغمرني في أضعف لحظاتي”.

تختم لينا حديثها: "أواسي نفسي بأنهم في رعاية الله، حيث لا وجع ولا خوف ولا قلق، هم في مكانٍ آمن، أقرب ما يكون للسكينة، وأقرب ما يكون للرحمة، وأخبر نفسي دائمًا أن هذا الفراق، مهما طال، سينتهي يومًا ما، اللقاء قادم، والانتظار مهما أثقلني لن يكون أبديًا، أعيش على هذا الأمل، فهو ما يُبقي قلبي نابضًا”.