بنفسج

محمد بهار: أربعون جنديًا في مواجهة شاب بمتلازمة داون

الأربعاء 11 ديسمبر

محمد بهار الشاب الذي أكله الكلب الإسرائيلي حيًا
محمد بهار الشاب الذي أكله الكلب الإسرائيلي حيًا

تقابل "بنفسج" سارة بهار، أخت الشاب المصاب بمتلازمة داون، محمد بهار، الذي عُرفت قصته مع الكلب وجنود جيش الاحتلال الذين قتلوه بشكل متعمد، لتروي قصة شقيقها والاجتياح لبيتهم الواقع في حي الشجاعية.

 فماذا عن لحظات الرعب وشقيقها مدرجًا بدمائه ينهشه الكلب؟ وماذا يعني أن تواجه أربعين جنديًا فتكون بالقرب من موت محقق؟ وماذا أن تعيش ما كنت تراه في أفلام الأكشن الأميركية واقعًا...

محمد مستنجدًا: سيبني يا حبيبي

محمد بهاد متلازمة داون.jpg

"خلص يا حبيبي خلص سيبني يا حبيبي".. كانت هذه كلمات محمد الأخيرة التي كان يوجهها راجيًا خائفًا، للكلب الذي نهش لحمه حيًا، حاول الطبطبة على رأسه لعله يتركه وشأنه، لكن الدماء التي كانت تتدفق منه جعلت الكلب أكثر شراهة للمزيد من دمه، وبينما كان الكلب يقتله ببطىء كان الجنود يستعدون للهجوم على البيت.

أربعون جنديًا مقابل شاب مصاب بمتلازمة دوان، يجاهد لأجل النجاة من كلب يتبع للجيش الإسرائيلي، رفقة عائلته الصغيرة التي كانت في الغرفة المقابلة ولا تستطيع مساعدته وإبعاد الكلب عنه. فعرفت ماذا يعني قلة الحيلة بحق، فشهدت موت ابنها على يد الكلب المدعم بكاميرا مثبتة بثت عملية القتل عند الجندي المناوب.

الاختباء في دورة المياه

محمد بهار شهيدا.jpg

في حي الشجاعية وبتاريخ 26 حزيران/ يونيو 2024 حوصرت سارة بهار وعائلتها داخل منزلهم، فعاشوا أيام من الجحيم مع الخوف وقلة الطعام والماء، ليليهم يشبه صباحاتهم، وفي 3 تموز/ يوليو والساعة تشير عقاربها نحو العاشرة صباحًا.

 ارتفعت وتيرة القصف والقذائف، فإلى أين المفر لنجاة محتملة، لم يجدوا أمامهم إلا دورة المياه للاختباء فيها، كونها بعيدة عن الشارع الرئيس الذي يتمركز به الجيش والدبابات، كانوا 17 شخصًا به منبطحين على الأرض، حتى طالتهم القذائف من ناحية دورة المياه.

زحفوا للخروج منه بعدما تطايرت الشظايا على أطرافهم وهم في طريقهم إلى غرفة مجاورة له سمعوا جنود يتحدثون العبرية، ففتحت هاتفها وأرسلت رسالة لشقيقها أنهم محاصرون والجيش يقف بين منزلهم ومنزل جيرانهم، لم تترك سارة لعقلها كثيرًا لترسم السيناريوهات هل سيقتلوهم واحدًا تلو الآخر؟ أم سيعذبونهم أولًا. أخرجها من تفكيرها صوت الجنود في الطابق الأرضي، فخافوا من تفخيخ البيت وتفجيره، نادوا على الجنود ليخبروهم أنه يوجد أناس بالبيت.

وبينما الهمهمات تعلو والأطفال يرتجفون وهم بانتظار الموت، باغتتهم طائرات الكواد كابتر تصور المنزل بكل من فيه بدقة، ثم اقتحمت الكلاب المكان وعلى صدر كل منهم كاميرا مثبتة، وحينها هجم الكلب الأول على شقيقها المصاب بمتلازمة دوان، فزع الجميع خوفًا على الشاب المريض، تقول سارة لبنفسج: "عضّ الكلب محمد من صدره وتركه ومحمد يقول له "ولا ولا"، ثم تجول بيننا جميعًا.

 فبقي محمد جالسًا على الكنبة ليباغته الكلب بهجمة أخرى ليعضه من اليد اليسرى، ومحمد يحاول إبعاده عنه لكن لا فائدة، فأخذ يطبطب على رأس الكلب ويحكي معه "خلص يا حبيبي سيبني يا حبيبي"، لكنه لم يستجب، يأس محمد وترك له يده لينهشها دون مقاومة منه، واستمر الكلب بعضه حتى أغرق دم محمد الأريكة".

بعد 15 دقيقة من محاولات محمد ومحاولات عائلته إزاحة الكلب، اقتحم الجنود المنزل وأبعدوا الكلب عن محمد الذي كان غارقًا بدمه، كانوا أربعين جنديًا، خمسة منهم وجهوا أسلحتهم نحو الشاب المصاب بمتلازمة داون، ومجموعة ثانية أركعت الجميع  على الأرض والأسلحة موجهة نحوهم، والثالثة أخذت أشقاء سارة: آدم وسيف الدين، ليقيدوا أيديهم بالمرابط البلاستيكية.

نزف ست ساعات حتى استشهد

محمد بهار ينزف.jpg

تكمل سارة لبنفسج: "أخذونا نحن النساء والأطفال إلى الطابق الأرضي، ولم يقبلوا أن نأخذ محمد معنا، حاولت أن أكون قوية وطلبت منهم جنديًا يتكلم العربية، فجاء أحدهم ليسمعني، فأخبرته عن وضع محمد كونه معاقًا، وطلبت منه إسعافه بشكل أولي لأوقف النزيف، لكنه رفض وأخبرني أنهم سيأتوا بطبيب عسكري".

بعدها جلبوا الموجودين إلى الطابق الثاني ووضعوهم جميعًا في غرفة واحدة، ومحمد لم يكن على الأريكة التي كان يجلس عليها، أخذوه ووضعوه في غرفة سارة وأغلقوا الباب، وشقيقها سيف بالغرفة الثانية يضعون على رأسه غطاء أسود، وأجبروه على الركوع على أطراف أصابعه، وكلما حاول التحرك ضربوه بقوة.

  6 ساعات ومحمد ينزف وحده وعلى الرغم من دموع والدته التي كانت ترجو الجنود أن يخبروها عن حالته، إلا أنهم لم يهتموا لها، أزالوا الخوذ من على رؤوسهم، وفتحوا هواتفهم على الأغاني، وأخذوا يغنون بصوت عال، وكانوا قد صادروا هواتف العائلة، فأجبروا سارة على فتح هاتفها ليتصفحوا ملف الصور، وطوال الست ساعات وهم يغنون ويستهزؤون بسارة وعائلتها.

تضيف سارة: "سمعنا صوت محمد يطلب الماء، فطلبت من الجندي أن يعطيه الماء، وليدعني أساعد شقيقي لأنه لا يستطيع الشرب وحده، رفض، وعاد لي مرة أخرى يقول لي محمد يريد ماءً مرة ثانية، أعطيته أيضًا، لكن لم أره يدخل غرفة محمد، كانوا كل بضع دقائق يدخلون يضحكون ويستهزؤون ومحمد أمامهم يأن من ألمه".

في تمام الساعة السادسة والنصف مساء، خرج جنديان من غرفة محمد، واحد منهم أشار إلى الآخر إشارة توحي بأن من بالداخل انتهى، قالت أم سارة: "شكله محمد مات أعطوه إبرة ومات". فأخبرتها سارة أنها ربما كانت إبرة مهدئ.

نادت أم محمد على الجندي وقالت له: هل شرب محمد؟ فقال: "نعم.. جهزوا أنفسكم بالرايات البيضاء لمغادرة المنزل". رفضت والدته أن تغادر دون ابنها، فأخبرها الجندي بلغة عربية ركيكة: "محمد راخ محمد مش هون". فشددت أنها سمعت صوته الآن. فرد: "لا هاد واحد تاني مش محمد".

أُجبرت العائلة على المغادرة في جنح الليل، فوجودوا 3 دبابات وجرافة في طريقهم، وطائرة الكواد كابتر أطلقت رصاصها عليهم، فرموا ما يحملونه من أمتعة، واختبأوا في مكان مقصوف، والدبابة أمامهم، حاولوا الخروج لكي لا يكون مصيرهم كالجثث المتناثرة في الشارع، وفي النهاية وصلوا لبيت مقصوف لا درج له، فتسلقوا الركام ليصلوا لغرفة بالأعلى، ونجحوا جميعهم في ذلك.

تقول سارة لبنفسج: "فقدت الأمل في ذلك الوقت بنجاة محتملة، نحن هنا في عتمة والأطفال معنا جوعى وعطشى، والطائرة تواصل إطلاق الرصاص، والدبابة مقابلنا، أخبرت الجميع أن ينطقوا الشهادة، وكتبت لكل الصغار على أجسادهم رقم هاتف شقيقي واسمه".

بعد وقت وجيز رأت عائلة سارة أناس يحملون الرايات البيضاء ويمرون من جانبهم، نادوا عليهم للانتظار، ليمشوا سويًا، وهم بطريقهم بعيدًا عن أماكن تمركز الجيش الإسرائيلي، شاهدوا الجثث بالشارع، وأمتعة الناس الذين تركوها وهربوا، ثلاث دبابات حاصرتهم ووجه الجنود السلاح نحوهم، ولكن ما زال في العمر بقية نجوا ووصلوا لساحة الشوا ليجدوا شقيقها وابن خالها بانتظارهم ليتوجهوا نحو منطقة السامر، ليبقوا فيها ليلة واحدة بعدما أتى أمر الإخلاء ليغادروا مكانهم مرة أخرى.

أما عن شقيقها آدم الذي اعتقله الجيش الإسرائيلي من منزلهم، تقول سارة: "بعد ساعتين من اقتحام منزلنا جاء مجموعة من الجنود يقتادون شقيقي آدم وهو حافي القدمين، مقيد اليدين، وأجبروه على القفز من المنزل، وهو يضع كاميرا على رأسه ومتفجرات بجسده، ووجهوه نحو منازل المنطقة لتمشيطها، وهددوه لينهي مهمته في وقت محدد وإلا ستنفجر به".

أسبوع بين استشهاده ودفنه

محمد بهار.jpg

لاحقًا وتحديدًا في 10 يوليو/تموز 2023 انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من حي الشجاعية، فتوجهت عائلة محمد للمنزل للبحث عنه، وجدوه مكانه وكل ما حوله مليء بالدم، تردف سارة: "كان بنزف كتير كتير لهيك كل شي متشرب دم الكنبة والسجادة واواعيا كل شي، حاولوا ولاد عمي وأخويا يطلعوه من الشجاعية ما قدروا بسبب وجود الطيارات، فدفنوا محمد بين بيتنا ودار عمي".

وصل الخبر إلى والدة محمد فلم تصدق أن حبيبها التي تركت عملها لأجله، فارق الحياة، بكت كثيرًا لأجله، رأته وهو يحتضر، في يوم اقتحام المنزل كان محمد يغني ويضحك وينادي على والده ويقول: "حبيبي يا بابا". فأخبرني حدسي: "شكلو رح نستشهد اليوم كلنا". استُشهد والد محمد وهو بعمر الثلاث سنوات، فتعلق بوالدته جدًا، وكان ينام بجانبها طوال سنوات حياته، لا تتركه إلا لضرورة.

ظل قلب أم سارة ملتاعًا يحترق على فراق الأحبة، ابنها المريض شهيدًا، وابنها الثاني اعتُقل من ميناء غزة منذ شهر حزيران/ يونيو 2024، ولم يصل أي خبر عنه سوى أنه بمعتقل "سيديه تيمان". أما آدم فقد اعتُقل لمدة خمسين يومًا، أُفرج عنه بالجنوب فافترق عن عائلته الباقية بالشمال. وسيف الدين ما زال معتقل بعوفر.

من بعد استشهاد محمد لم تذهب والدة محمد إلى البيت إلا مرتين، كان صعبًا عليها رؤية الدماء في كل مكان، تقول سارة: "رح نحتفظ بكنبايته وبعض الأواعي الغرقانة بدمه زي ما احتفظنا بمصحف أبويا وساعته الغرقانين بدمه".

رحل محمد وبقيت روحه تحلق عند أحبته، كلما اشتاقوا زارهم طيفه، يستذكرون ما كان يحبه، وحين يرون القطط والأرانب يتراءى لهم وجهه، فقد كان محبًا لهم وهم يركضون بين أحضانه، وعندما يرى طبق الملوخية يظل يغني ويرقص، ويعتبر يوم طبخها عيد، ويغني أغنيته المفضلة "حمود حبيبي حمود".

مرت أشهر على استشهاد محمد وما زالت الأسئلة تنخر رأس سارة، تتساءل "هل استشهد ونحن معه بالبيت؟ هل حل الظلام عليه وكان جائع عطشان؟"، وكلما ذهبت إلى بيت واقتربت من غرفتها أصابتها نوبة بكاء طويلة وضيق بالأنفاس.