"شريك الدرب.. دعوة الله المستجابة"... لطالما تباهيت بشريك دربي "أبو أحمد"، كما أحب أنا أناديه، يقولون أن "وراء كل رجل عظيم امرأة" لكنني أقول: "وراء كلّ امرأة رساليّة رجلٌ عظيم". كان رجلًا غير مجهولًا في حياتي، عرفه الجميع ووصفوه بالرجل الشهم الخلوق الملتزم، وأنا في أول حياتي كنت أدعو الله أن يرزقني رجل تقيًا، أشبهني وأشبهه.
عام الحزن الذي فقدنا فيه أبا أحمد، وفقدنا فيه الكثير من الأحباب ورفقاء طريق الأقصى وعقيدته...
كنت أتمنى رجلًا حافظًا لكتاب الله مثلي، ودراسًا للعلوم الشرعية، فاستجاب الله دعواتي وجاءني هو. ولكن واجهتنا بعض المعيقات حين تقدم لي، فقد كانت هويتة تتبع إلى الضفة الغربية، وهذا يشكّل عائقًا في ظل تقسيمات الاحتلال وتمزيقه للمجتمع، إإضافة لأنه أسير سابق، ولم يكن يملك بيتًا، ووضعه متواضع، وأيضًا كان مختلفًا عنا من ناحية العادات والتقاليد، سرد والدي أمامي كل ميزاته وما أسماها عيوبه، وأنهى حديثه لي قائلًا: "لكنه حافظ لكتاب الله".
وحين علمت بهذا وافقتُ بلا ترددد، وكانت لنا جلسة هي الأولى والأخيرة قبل الموافقة وعقد القران، تبادلنا فيها أطراف الحديث حول القرآن والجامعة والكتب وأساتذتنا المشتركين الذين علّموه ثمّ صاروا أستاذتي فيما بعد، خرجنا بالموافقة وتعيين يوم عقد القران الذي لم يكن وقتها كما اليوم في الأقصى وذلك قبل أكثر من خمس وعشرين عامًا.
في المحكمة عُقد القران وكانت وجهتنا الأولى هي المسجد الأقصى المبارك، ولمّا تزوجنا كان هو قد أنهى البكالوريوس في الدعوة وأصول الدين، وأكملت دراستي الجامعية وأنا متزوجة، وأول كتابٍ أهداه لي هو شرح ابن حجر العسقلاني لصحيح البخاري. كان هو الداعم الأوّل في كلّ طريقٍ إلى الخير لم يمنعني من أيّ مهمّة دعوية ولا أي واجب دينيّ أو وطنيّ؛ بل كان محفّزًا دومًا.
مررنا بصعوبات جمّة، حتى أن غداءنا في بعض الأيام كان الزيت والزعتر، وفي بعض الأيام كنّا لا نجد ثمن دواءٍ لأحد أبنائنا إن مرِض، أكمل هو الماجستير في البلاغة، ثم في الفقه ثم الدكتوراه في النحو والصرف وغادرني قرابة العام إلى السودان. وبعدها بدأ مشروع دكتوراه ثانٍ ولم يدركه حتّى أدركه قضاء الله تعالى.
تجاوزنا كل العقبات حتّى بدأ عصر الرباط، لم يكن يملكُ أيّ وثيقة ولا تصريح لدخول القدس ولكنّنا عشنا فيها بعد زواجنا لأكثر من سبعة عشر عامًا بتسهيل من المولى جلّ شأنه ..اخترت طريق الأقصى برفقته وبقرارٍ مشترك، وتركت وظيفة التعليم متوجهة نحو طريق جديد ودرب طويل شائك محفوف بالمكاره والتضييقات. كما كان داعمًا في التعليم والعمل والدعوة، كان خيرَ معين لي في مسيرة الأقصى التي لم ولن تنتهي.
لم يتوقف أبدًا عن دعمي، شجعني في كل محطة، واساني حين أحزنني الناس، آواني حين تخلّى عنّي الكثير، لم يسمح لأحد بالإساءة لي أو التطاول، تعرضتُ للإبعاد عن الأقصى فخفّف عني البعد، وللاعتقال فلم يتوانَ عن خدمة البيت ولا القيام بالأبناء. وعند كلّ ابتلاء يقول "ربنا يعوضك خير" هذا هو طريقنا وهذا هو الثمن واصبري وربنا يخفف عنك".
أكملتُ الماجستير في بيته، وحصلت على الإجازة والسند في القرآن وهو خلفي يدفعني، وظلّ يلحُّ عليّ لإكمال الدكتوراه، فبدأتها وأنجزت موادها ووصلت إلى مرحلة كتابة الرّسالة وبدأت في الكتابة حتى داهمني السّجن ثمّ مرضه الذي اعتبره الأطبّاء مرضًا قاتلًا. كنت يوميًا أخرج للعمل ثم أعود إلى البيت لإنجاز مهام البيت ثمّ أعود إلى الأقصى أو على بواباته ؛ فلم يمنعني يومًا ولم يشتكِ بل ينجزُ ما لا يتسعُ وقتي لإنجازه من مسؤوليات البيت، وعندما يراني حزينة أو كئيبة لعدم قدرتي على دخول الأقصى يحثّني على السفر لنشر صورة الأقصى وقضيّته في كلّ المحافل.
دأبه يقول وقفناكِ للأقصى فامضي ولا تلتفتي، دفعَ ضريبة رباطنا جنبًا لجنبٍ معي؛ فيكون الأمّ والأب في غيابي عن البيت، واعتقل عدّة مرّات عند مداهمة بيتنا ، وصودرت مقتنياته وكتبه، وكجزء من الانتقام منّي أصبحَ ممنوعًا من دخول القدس نهائيا ولا يمكنه دخول مسجدها أبدًا، ولم يدخلها إلّا في عامه الأخير من حياته، دخلها مريضًا يتنقّل بين مستشفيات القدس، أثناء فترة منعه من دخول القدس عشنا منها قرابة العام هو في الضفة وأنا والأولاد في القدس فلم يكن من نقطة لقاء حتى انتهى إبعادي عن الضفة، ومرّة التقيناها بعد أن تمكّن الوصول للأقصى خلسة!
حتى ارتحلت والأولاد إليه في بيت محاذٍ لجدار الفصل الذي يفصل بين الضفة والقدس، وانتقلنا إلى مدىً أبعد من مدينة القدس يحيط به الجدار كأفعى ماكرة! فصرتُ أجاهدُ البعد عن الأقصى وأنا على بعد أمتار منه، وصار أبو أحمد يجاهد البعاد وهو على بعد كيلومترات كثيرة وجدار وحواجز. ولم نجتمع مجدّدا في بيت في القدس على مقربة من الأقصى إلّا في العام الأخير من حياته، العام الذي مرض فيه، عام الحزن الذي لم نتمكّن فيه من الصّلاة في الأقصى هو بسبب المرض الشَديد وأنا بسبب المنع.
عام الحزن الذي فقدنا فيه أبا أحمد، وفقدنا فيه الكثير من الأحباب ورفقاء طريق الأقصى وعقيدته. كثيرون كانوا يتهامسون حوله غمزًا ولمزًا؛ فمجتمعنا تحكمه أعراف بالية لا تحترم المرأة، ولا تسمح لها بأن ترتفع إلّا بقدرٍ محدود، إذ تعتبرُ مجتمعاتنا الرجل الذي يتناغمُ مع زوجته ويعاونها، تعتبره "محكومًا" ولا قرار له! فلم يلقِ بالًا لأيّ سخرية أو غمز، بل أثبتَ بحقّ أنّ خير الرجال خيرهم لأهله، وأنّ الرجل والمرأة يتكاملان ولا يتناطحان.
هذا طرفٌ من حكايتي مع أبو أحمد حكايةٌ لا آخر لها، حتى نصلَ معًا إلى الفردوس، نحملُ في موازيننا عقيدة الأقصى وحبّه عساها تشفع لنا يومَ لا ملجأ من الله إلّا إليه. فاللهمّ اغفر له وارحمه... اقبله وتقبّل منه، واجزه خير ما جزيت مؤمن عن دينه وأقصاه وأهله وبيته وولده، واجمعنا به في الفردوس حيث لقاء لا فراق بعده، واجعلنا خير خَلَف لخير سَلَف.