"اليوم، يا أطفالي، أنتم من تخلصتم، وليس أنا، وبقيت في عالم أكثر رعبًا وبؤسًا، سلبكم مني في لحظة غدر، وأنتم تدعون يا رب ما يقصفنا الصاروخ"...
يقول كافكا: " إنّ الكتابة هي انفتاح لجرح ما"، لا أدري تحديدًا ما الذي يقصده كافكا؟ أهو جرح نال من صاحبه حتى التأم، فنكأته الكتابة فأعادت فتحه من جديد؟ ولماذا نُعيد فتح جراحنا؟ أهي جراح لا برأ منها ولا شفاء؟ أم أنها جراح لم يُكتب لها تمام الشفاء بعد؟ والكتابة كيّ يُبرء صاحبه من علته؟ كجرح يُخرج عصارته حتى يشفى؟ أهذا هو المقصود بالكتابة العلاجية؟ إذ يقولون أن كتابة مشاعر المرء تخفف تدريجيًا من مشاعر الصدمة العاطفية حتى يتماثل الشخص للشفاء، أنكتب لنشفى؟ أم نكتب لينفتح جرح لا يبرأ؟
ضيفتي هذه المرة، صديقة راقبتها من بعيد، كانت صامتة في بداياتها، لا تكتب ولا تُعلق، راسلتها بِحُكم عملي الصحافي، هل يمكنني أن أكتب قصة صحافية حول طفليك آية وعبود؟ أجابت بلطف: "سامحيني آلاء، أنا لا أستطيع الكلام الآن"، تلمستُ لها ألف عذر وعذر، وإن لم أكن أعرف تفاصيل قصتها، حتى راسلتني بعد فترة، أرسلت لي مجموعة من الصور، كانت لطفلين من أجمل وألطف ما رأيت، قالت لي هذه صور آية وعبود، وأنا أسماء مغاري، التي قتل الاحتلال طفليها و22 شخصًا من عائلتها في ليلة واحدة، فيما أُصبت هي وتخضع للعلاج في قطر.
أسماء مغاري: هل تداويها الكتابة؟
عكفت أسماء على الكتابة وهي في سريرها في أحد مستشفيات قطر، تسترسل أحيانًا، وتعود لصمتها أحيانًا أخرى، رأيتُها إن كتبت وصفت فأوجعت مرة، وإن سكتت أوجعت مرات ومرات، تتعلق روحها بين السماوات السبع، تتطلع لطيف الصغار الذين رحلوا، كتبت ذات مرة عن رؤيتهم حقيقة تحت تأثير البنج في عمليات ثلاث أجرتها، وهي عندي صادقة أمينة، وقالت لي ذات مرة أن أحد الأطباء توسل إليها أن تسكت وألا تهذي بآية وعبود، فقد أفقده حزنها قدرته على التطبيب...
كيف هو قلب أمهات الشهداء الصغار؟ سألت بصوت مرتفع، ولا إجابة شافية رغم كل المحاولات، رأيتها تُتقن فن الحديث باسم أمهات الشهداء الصغار، ترى وجه طفليها آية وعبود في كل طفل يموت يوميًا في غزة، وفي كل طفل يُصاب أو ينزح أو يشكه دبوس حتى، صادق قول لها ما رأيت، فكتبت ذات مرة حول بدايات إصابتها واستشهاد أطفالها: "لقد انتظرت دوري على سرير في ممر المستشفى لخمسة أيام قبل إجراء عمليتي المؤقتة، كان أغلب من هم حولي أطفال، كان يشغلني التفكير بهم وأنسى نفسي، وأقول كيف لهؤلاء الأطفال أن يتحملوا كل هذه العذابات؟"
تعدت في أمومتها آية وعبود إلى كل الشهداء الصغار، دونت كثيرًا عن كل فردٍ من عائلتها، عن أمها وأبيها، عن أم فقدت طفلها المدلل، غير أّن محط حديثنا هُنا عن أختها الشهيدة وسام.
ابنة قلبي.. أختي وسام
بدأت حديثها بصعوبة بالغة، وبإصرار خجول مني، حاولت التهّرب مرات من الحديث، ولكنني أريد أن أعرف، وأن أتقمّص القلم الذي أتقن الكتابة عن الألم، قالت:" كيف لي أن أتحدث عن وسام، ابنة قلبي؟ وسام أختي عمرها ٢٥ سنة درست محاسبة ولم تنهِ دراستها، بسبب انشغالها في البيت والأطفال. أم لطفلين مصطفى بعمر السنتين، وخالد خمس سنوات، هي الابنة المُقربة لأمي، وسام قريبة مني جدًا فهي صديقتي المقربة، مع بدايات الحرب كنتُ دائمة القلق عليها، أتمنى أن تكون بيننا، كنتُ أحاول الاطمئنان عليها بالهاتف أو أي طريقة ممكنة".
أُصيبت أسماء واستشهد 22 شخصًا من عائلتها في مجزرة عائلة المغاري، وهي مجزرةٌ ارتكبها سلاح الجوّ الإسرائيلي حينما أغارَ على منزل يتبع لعائلة المغاري ضمن سلسلة غارت شنها على مدينة رفح، تقول أسماء عن هذا اليوم:" هذه الحرب كسرتني وأخذت مني روحي وسكينتي ومن كنت أعيش لأجلهم. في تاريخ 17 أكتوبر 2023، كنا آمنين في بيتنا، كان أبي على باب البيت ينتظر إخوتي ليأخذوا منه ما تسوقه لأجلنا.
كانت أمي في طريقها إلى المطبخ لتطهو لنا وجبة الغداء، كان طفلاي يلعبان، وبقية أسرتي كل في مكانه. قصف بيتنا فوق رؤوسنا، ولم نكن نشكل خطرًا كما يبررون. قُتل كل من في البيت، وكنا 24 شخصًا، نجوت أنا وأختي وابنة عمي بإصابات لا زلنا نعاني منها حتى وقتنا هذا..."
أشلاء وسام.. خرجت قطعة قطعة على مدار أسبوع
نقلت وسام خبر استهدافنا بصبر ورباطة جأش، كانت كأسماء ذات النطاقين، تأتي كل يوم إلى المستشفى مشيًا على الأقدام أو على -الكارة- أي العربة التي تجرها الحيوانات، تعتني بمن تبقى من أفراد عائلتها وتعد لهم الطعام، بقت أسبوعين على هذا الحال، غير أن قلبها كان ساكنًا مطمئنًا، راضيًا كما يصف رُبنا في كتابه حال المؤمنين، ثابتين مثبتين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فكان من قولها:" أنا مرتاحة وراضية، وبشعر إني مش خايفة من الحرب، ايش ما بده يصير فيها"
بعد خروجنا من المستشفى كانت الحرب قد اشتدت وكان الاتصالات قد قُطعت بشكل تام، وكان التواصل مع وسام صعبًا للغاية، وانقطعت أخبارنا عن بعضنا، وبتنا لا يعرف أحدنا شيئًا عن الآخر، وذات مرة وفي تمام الساعة 12 مساءً، حدثني أخي أسامة متسائلًا إن كنتُ أستمع للأخبار أم لا، وأطلب مني ان أكون قويةً وصابرة، فقد قصف الاحتلال الإسرائيلي بيت الشاعر، أي بيت أختي وسام، ولا أخبار حتى اللحظة إن كانت وسام وعائلتها قد نجت أم لا.
"توسلته أن يقول لي أن وسام قد نجت، فقال لي أن الدفاع المدني كان في المنطقة، وقد سمعوا بعض الأصوات تحت الركام، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينقذوا أحدًا نظرًا لصعوبة الوضع واستمرار استهداف المنطقة، فاضطروا للانسحاب، عادوا في نهار اليوم التالي ليتتبعوا الصوت، فكان لطفلة صغيرة في المكان، عرفتُ حينها أن أختي وسام وزوجها وطفلها قد استشهدوا جميعًا، وظلت أشلاؤها تخرج من تحت الأنقاض قطعة قطعة لمدة أسبوع كامل، فيما نجى ابنها الصغير خالد."
تصف أسماء أختها فتقول:" أختي من دمي، طفلتي وابنة روحي، الرفيقة التي كانت تزيح عن قلبي كل هم، من كانت تفهمني من نظرة، أنيستي التي طيّبت على روحي واعتنت بي إثر إصابتي بعد فقدنا والدينا وإخوتنا وطفليّ، اطمأنت عليّ، ثم غادرتني والتحقت بحبيبتها أمي وكلّ الرفاق الشُهداء". وقالت عنها ابنة عمها:" كانت جبارة قوية صابرة رقيقة كالنسمة وجميلة بشكل يأسر القلوب، ولكن هذه الرقة لم تحتمل فراق أهلها كثيرا ، لحقتهم هي وزوجها وابنها الصغير بعد أسبوعين فقط في غارة على منزلهم"
خالد: الطفل الذي نجا وفقد القدرة على الكلام
نجا خالد لأنه لم يكن في المنزل وقت القصف، فكان يلعب عند الجيران، سمع القصف فركض إلى البيت، فرأى المنزل الذي تحّول إلى ركام، صرخ ونادى ماما وبابا، أصابته صدمة ولم يعد يستطيع الحديث لمدة شهر كامل، وهو الآن مع جدته وجده لأبيه.
"بديش أبوسها.. أنا زعلان منها لأنها سابتني وراحت"، هذا كان رد خالد ابن وسام عندما طلبت منه جدته تقبيل صورة أمّه، تجيبه أسماء فتقول: " ينتظرك ثأر كبير يا خالد، تأخذه لأجل أبيك وأمك وأخيك مصطفى وأخيك الذي في رحم أمك، أمك كانت روحها فيك، وآخر عهدها معك كانت تحدثني بفرحتها بتسجيلك في الروضة، وكيف كانت تختار لك أول قميص لتذهب به، لتكون بأجمل طلة، كانت تريد لك الأفضل في كل شيء يا ابنها الأول، يا فرحتها الأولى، وسام، أمك تحبك وما تركتك.. الاحتلال الصهيوني هو من قتلها، وصمت العالم هو الذي تركك يا خالد!"