بنفسج

الصحافية سماح حجازي: يُكسر الظهر باستشهاد الأب والأخ

الخميس 19 ديسمبر

سماح حجازي عن فقدان الأب والأخ
سماح حجازي عن فقدان الأب والأخ

تخيلت اللقاء بهم كثيرًا، بكت وهي في لحظات صمتها وطيفهم يتراءى حولها، كم أرادت أن يكون التخيل حقيقة تلمسها، أضناها الشوق، فكان صوت العائلة القادم من شمال غزة مؤنسها، لعنت الجغرافيا والحدود والحاجز الذي سماه الاحتلال ب "نتساريم"، وضلت تُصبّر قلبها ببضع أمل بأن الحرب ستنتهي وسيلتقي الأحبة جميعهم وتعود هي من جنوب غزة لشمالها حيث مسقط رأسها بيت لاهيا، لتحظى بعناق العائلة، ولتبكي بين أحضانهم عام الحزن كله، لكن الموت خطف والدها وشقيقها معاذ، ليهدم كل تخيلاتها بلقاء قريب يروي ظمأ روحها المفتقدة لوجوههم.

الصحافية سماح عاطف حجازي ممن فرقهم الاحتلال قسرًا عن عائلتها في شمال غزة، عاشت الحرب حربين، قضت ليالي تبكي شوقها للعائلة، تروي لبنفسج تلك اللحظات، ويوم تلقيها نبأ استشهاد والدها الرجل الطيب الذي له من اسمه نصيب كما تصفه هي، وشقيقها معاذ "نينجا مخيم جباليا".

ورحل السند

معاذ حجازي.jpg

قضت بداية الحرب في بيت العائلة تنزح من مكان إلى مكان، فواجهت الموت عن قرب، ثم بعد سريان الهدنة قررت العودة إلى منزل زوجها الواقع في البريج وسط مدينة غزة، ودعت الأهل وتوجهت نحو حاجز "نتساريم"، تقول لبنفسج بصوت منهك: "منذ أول يوم في الحرب قررت مغادرة بيتي والتوجه نحو بيت أهلي لأعيش الحرب معهم لكن لم أتخيل أن تكون حربًا بهذه الشراسة، وأن يتم وضع حدود بين الشمال والجنوب.

 صُدمت عندما وُضع حاجز نتساريم جدًا، عشت شهرين تقريبًا في الشمال، أعاني ما يعانيه أهلي من جوع ورعب، ومع ذلك كان كل فرد بالعائلة يرفض الاستجابة للاحتلال للنزوح جنوبًا". في اليوم الأول للهدنة المؤقتة التي كانت بنوفمبر 2023، حزمت سماح أمتعتها، وعادت إلى بيتها حيث زوجها الذي فارقته لشهرين، وخلال تلك المدة كانت تعاني من انقطاع الاتصال به بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت عن شمال غزة، فكانت ترتعب مع كل خبر استهداف البيت في البريج.

تضيف لبنفسج عن اللقاء الأخير بعائلتها في الشمال: "ودعت أهلي بالبكاء، رافقني والدي إلى معسكر جباليا وتحديدًا الترنس، ثم أكمل شقيقي معاذ معي الطريق لآخر نقطة يسمح بها الاحتلال، وكان حدسي يخبرني أنه آخر لقاء لي بهم هم وجدتي، وبالفعل حدث ما شعرت به". عاد معاذ إلى البيت دون سماح يقول لهم: "ضليت متابعها بعيوني حتى اختفت عن ناظري، نظرت لمن مشي قبلها وبعدها حتى اطمأن قلبي قليلًا ثم غادرت".

في صبيحة يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 2024، تواصلت سماح مع عائلتها القاطنين في مشروع بيت لاهيا، فأبلغوها أن "الكواد كابتر" حذرتهم من البقاء في المنطقة، وطالبتهم بإخلائها فورًا، وبالفعل قرروا المغادرة خوفًا من بطش الجيش الإسرائيلي، توجهوا لمشفى كمال عدوان حتى تهدأ الأوضاع قليلًا ليستطيعوا الخروج نحو غرب مدينة غزة، وبينما تنتظر خبر نجاتهم وبلوغهم مكان آمن قليلًا جاءها الخبر، "أبونا وأخونا معاذ استشهدوا يا سماح"، قالتها شقيقتها وهي ترتجف وما زالت لا تستوعب أن الرجلين اللذان كانا بجانبها منذ دقائق رحلوا للأبد.

تضيف سماح ودموعها تغلب حديثها: "انقهرت كتير بس وصلني خبر استشهادهم بكيت كتير، والنار ما بتهدا بقلبي، كان نفسي بس أشوفهم، سنة بحالها مفارقهم وعايشة بس على أمل اللقاء، شعور أني مغتربة جوا بلدي كسرني، انكسر ظهري يوم فراقهم". قبل أن ينال الرجل الطيب الشهادة كان يخبر زوجته وأبناءه: "الله الحامي.. العمر واحد والرب واحد". كان هادئًا في آخر لحظات حياته، لم يجزع أو يمس قلبه خوف، تقول سماح: "أخبروني أن والدي فاحت منه رائحة المسك، أما معاذ دُفن وهو يرفع أصبع التشهد، فأثلجت خاتمتهم قلبي، فحقًا هذه خاتمة تليق بمن مثلهم، الحمدلله على كرم الله وفضله".

أما عن الموقف الأول الذي واجهت فيه سماح الموت المحقق رفقة عائلتها، يوم أن تعرض المربع السكني الذي نزحوا له في شارع الهوجا في مخيم جباليا للقصف العنيف، تصف الحدث: "من هول ما حدث لم نحسب أن أحدًا على قيد الحياة. تهشم الزجاج من حولنا، غبار أبيض يغمرنا، أخرجنا من الصدمة صوت جدتي تصرخ والدنيا سوداء كشبح، والدماء تملأ الدرج بالكامل، فقد تعرض ابن عمي للإصابة يومها، لم أفهم لحتى الآن كيف نجونا من الموت جميعنا".

في سيرة الأب العطوف

والد سماح.jpg

تخبرنا سماح عن والدها الحاصل على بكالوريوس اللغة العربية من الجامعة الإسلامية في غزة، تقول لبنفسج: "كان رجلًا حنونًا علينا، محبًا للناس جميعًا، محبوبًا، يحب التعليم فحرص على أن ننال جميعنا أفضل الشهادات، أحب مهنة التبليط فمارسها باجتهاد، وكان شقيقي معاذ رفيقه الأول في العمل".

أحب والد سماح الزراعة، فقضى أوقاتًا يزرع الأشجار التي يحب كالزيتون والنخيل حول البيت لحديقة فيها كل المزروعات، وعند مدخل البيت يظهر اهتمام والدها فقد زرع أشجار الزينة، التي شكلت لوحة فنية بديعة لمن يرى البيت من بعيد، كما اهتم بزراعة أشجار العنب على سطح المنزل، حتى نمت وغطت السطح كله.

أما أيام المجاعة التي ضربت شمال غزة في بداية الحرب، أصر والدها على ممارسة شغفه بالزراعة، تكمل: "زرع والدي لنا البندورة والفلفل الأخضر والباذنجان والبقدونس والرمان، لكن التربة المسممة لم تساعده، ونجح فقط بقطف ثمار الرمان لأنه كان موسم نضجه، وكانت هذه الفاكهة الوحيدة التي تناولناها طيلة فترة الحرب".

كان الأب فخورًا بابنته الصحافية يشاركها شهر ميلادها فكانا يحتفلان سويًا بذكرى ميلادهم، ولا يترك مجلسًا إلا يحكي فيه عنها، حين كانت سماح تكتب تقارير باسمها يقرأها بتمعن، فتقول مبتسمة: "أذكر أنني كنت أعمل معدة برامج بإحدى الإذاعات، فكان والدي يعمم على أهل البيت لتذكيره بموعد الحلقة، ويحرص على الاستماع للبرنامج حتى نهايته ليصغي للمذيع وهو يقول في نهاية برنامجه "سماح حجازي"، ثم ينهي استماعه بابتسامته المعهودة".

لم تنس سماح أن تخبرنا أن والدها رجلًا محبًا للأكلات التراثية، يحتفظ ويفخر بكل موروث، يعلم أبناءه طريقة طهي الطعام التراثي بأصوله الفلسطينية كالمفتول وفطائر السبانخ، ويحب الحلويات التقليدية كالأرز بالحليب والهيطلية الشتوية، ولكن استُشهد وهو مشتاق لطعامه المفضل ولابنته الذي فرقتهما الحدود داخل المدينة ذاتها، وكان جل ما يتمناه أن يرى أحفاده قبل أن يسترد الله أمانته.

نينجا المخيم شهيدًا

نينجا المخيم.jpg

أما معاذ الوسيم كما تصفه سماح، درس الصحافة والإعلام، اهتم بالكتابة الأدبية، وكان ينوي إصدار روايته الأولى لكنه مات قبل أن يًكمل ما بدأ به، تقول لبنفسج: "شقيقي الأوسط تميز في عدة مجالات نجح ببراعة، منذ نعومة أظافره ساعد والدي في مهنة البلاط، وفي المرحلة الإعدادية رغب في الالتحاق بالنادي الملكي للكونغ فو وتميز به كمتدرب ولاحقًا كمدرب بدرجة الامتياز، التحق بعدة دورات في المجال الإعلامي، عمل بعد تخرجه في الاتصالات الفلسطينية لكنه أحب أن يكون مدير نفسه يعمل وقتما يشاء فأنشأ مشروعه الخاص بوتيك معاذ "النينجا" للملابس الجاهزة.

تنطبق على معاذ مقولة: "يفوز باللذة كل مغامر". لُقب في المرحلة الإعدادية ب "النينجا"، فقد شبهه الأصدقاء بمسلسل سلاحف النينجا الكرتوني، تكمل سماح: "أحب الرفاق فيه نينجا لأنه كان الصديق الشجاع المغامر وكان اللقب يليق به، فعرف به لاحقًا بين أصدقائه وكل شباب المخيم، وحقيقة أنا أشعر بالسعادة لهذا اللقب لأنه يذكرني بالطفولة والبراءة وصفات أخي المغامر الذي لا يعرف الفشل".

في 11فبراير/ شباط كان سيكبر معاذ عامًا آخر ليكمل ال26 عامًا، وستكبر قائمة الأحلام والخطط أكثر، تردف شقيقته عن أمنياته: "أحلام معاذ كثيرة يصعب حصرها لكنه كان متسمكًا بالأشياء التراثية كالنحاسيات وخشب الزان والقطع الأثرية الجميلة فأنشأ له معرضًا من غرفة صغيرة وضع كل ما يستحق أن يوضع فيه كالكتب والتحف وأدوات الكونفو وذكرياته والهدايا القيمة، ساعات الأهل القديمة، وكان يقول أريد أن أخبر أحفادي عن كل شيء ولا أريد أن يفوتني شيء وأنساه فجمع كل شيء في معرضه، أما حلمه الثاني كان توسيع مشروع الملابس ليصبح محل كامل، لكن رحل وترك الحسرة في قلبي على كل حلم له لم يكتمل".

أما عن والدتها التي لم تفقد زوجها وابنها فحسب بل فقدت أشقاءها أيضًا، تقول سماح أنها كانت صابرة راضية بقضاء الله وقدره، أمرضها الحزن على فراق الأحبة، لكن كلمات الحمد والشكر كانت على لسانها رغم المصاب الجلل، فنزحت لغرب غزة وباقي العائلة، بعدما عانت الويلات وهي تمر من على حواجز الاحتلال في الشمال.

وفي كل اتصال مع سماح تردد: "الحمد لله الذي أكرمهم بالشهادة. اللهم لا اعتراض على حكمك. اللهم إنا رضينا بحكمك فراضنا وارض عنا يا الله".
تنتظر ضيفتنا أن تنتهي الحرب لتجتمع بباقي العائلة، لتبكي بكاء عام الحزن كله، وكل ما تتمناه الآن أن لا تتذوق مرارة الفقد مرة ثانية، تنهي حديثها لبنفسج: "بدي أروح على الشمال أحضن أهلي وبيتنا وكل مكان، بدي أزور قبر ستي وأبويا وأخويا وأخوالي، بدي غزة ترجع النا".