بنفسج

غزة: المدينة التي لا تنطفئ نيرانها

الأحد 22 ديسمبر

حرب السابع من أكتوبر نيران لا تنطفئ
حرب السابع من أكتوبر نيران لا تنطفئ

كانت البداية في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣ حين خرجنا مُغبرِين، متربِين بركام بيتنا، من قلب الموت، ووقع الصواريخ التي هطلت تباعًا على بيت جيراننا، خرجنا نركض من فم الموت المتشدق ساديةً، والعابث بأرواح أفرادٍ، كان يعُدهم أرقامًا في سلسلته الإجرامية. لم يجرؤ أيُ أحدٍ على الاقتراب من المنازل المحتضرة، والتي انتُزِعَت من بين جنباتها أرواحُ أصحابها.

 وحين انقشعت، وغارت طائرة الاستطلاع (الزنانة) التي كانت هي بمثابة المخبر الذي ينتظر انتهاء الجريمة، ويتأكد من اغتيال الضحايا، هرول الناس إلى البيوت المقصوفة يحاولون إنقاذ من يمكن إنقاذه، وإكرام من ارتقى بتوسيده التراب. وبدأت منذ تلك اللحظة سلسلة: (حمدًا لله على السلامة)، حين تكدس الجيران، والمعارف في بيتنا، وضجت هواتفنا بالاتصالات، والرسائل المهنئة بالسلامة، والصراحة تقال: أني شعرت يومها بوقع الكلمة، وبأننا جديرون بها ونستحقها، فقد نجونا من الموت.

بعد ليلةٍ ساخنةٍ ملتهبة، استمرت الخبب والأحزمة النارية فيها بالهطول والتتابع، كنا على أوقاتٍ متفرقة يسأل بعضنا الآخر دون أن يرفع رأسه عن الوسادة: هل تسمع هذا، أو هل أنت مستيقظ؟ فيجيب الثاني: بنعم. في تلك الليلة لم يعرف النوم إلى أجفاننا طريقاً، فقد هرب مولياً مدبراً، يخاف من سُهادِه أن يُتخطف. وحين أطلت الشمس، تبادلت النظرات كل الأحاديث الكامنة، كان لسان حالها يقول: لقد نجونا...

ثم تبادلنا وجيراننا التهنئة مجدداً. كانت المدينة لا تنطفئُ نيرانها، ولا تخرس فيها أصوات المدافع، أو الصواريخ. ومع اقتراب الجيش من حينا بمجنزراته،  والتي أصبحت قاب قوسين أو أدنى نُزِّحنا إلى مدينة أخرى أُعلِن أنها آمنة! في اليوم التالي لوصولنا لرفح، لم نجد خبزاً نقتات منه، فكان علينا الاصطفاف في طابور الخبز، والذي وقفت فيه للمرة الأولى.

 بقيت فيه من قبيل الظهر حتى بعد أذان العشاء بساعتين، تورمت فيه قدماي، ورأيت فيه من العذاب صنوفاً كثيرة، فقد كانت المرة الأولى أيضًا التي أشهد فيها مصرع أحدهم أمام عينيّ، حين تطاولت الأيدي والألسن بين الناس، كل واحد منهم يريد أن يحصل على رغيف قبل أن ينفذ ما في الفرن، فتدافع الناس وتساقطت النساء والأطفال كما تتساقط أوراق الخريف الهشة تؤذن بانصرامها، وانتهاء العمر، فماتت ثلاث نسوة، وطفلةٌ في المكان.

وحين عدت إلى البيت بدأت التبريكات بنجاتي تنهال عليّ بعدما علموا بالواقعةِ أمام الفرن، ولكنني خُرِستُ تماماً، فأمسيتُ لا أنبسُ بشيء، وبقيت على هذه الحالة أسبوعاً كاملاً. وهكذا، وكلما رضينا بواقع فُرِض علينا ما هو أقسى منه، لم يرضَ بنا الواقع بأي شكل كان، أُغلِقتْ المعابر، ومُنع منا الدقيق، وأصبح وجوده عبارة عن معجزة، لا يدركها إلا قلة.

 كنا في أواخر الصيف، ولكن الصيف لم يرحم حالنا، فبدأ الخبز الذي نعده بالتعفن فكنا نقلبه بين أيدينا، نتهرب من تلاقي نظراتنا، وكنا مخيرين بين الموت جوعاً، أو الموت تسمماً، فاخترنا الميتة الثانية، وغضضنا الطرف عن تلك البقع الخضراء، والبيضاء، وعن لزوجة الأرغفة، وعفونتها، كنا نمسح وجه الرغيف بالماء، نأكل الظاهر، ولا نعبأُ بباطنها، وهذه رأس الحكمة، ولُبُّها!

ثم بدأنا نترقب الأعراض: القيء، أو شحوب اللون، وحين أصبحت مناعتنا قوية ضد العفونة هنأنا أنفسنا بالسلامة من تجاوزنا هذه الأزمة. في أحد المرات التي خرج فيها والديَّ قاصدين أحد المعارف في منطقةٍ مكتظة بالخيام، فإذا بالنيران ترتفع ألسنتها إلى السماء، والناس يتصارخون، والدماء تتراشقُ على الثياب، والوجوه، وأطرافٌ: (أيادٍ، وأقدام، ورؤوس) تتناثر على الأرض، رجع والديَّ إلى البيت واجمين ذاهلين من هول ما رأوا، فهرعنا نهنئهما بسلامة روحيهما.

وفي ليلةٍ من ليالي أغسطس الخانقِ بحرارته، ورطوبته، هرب أخي من بقايا الغرفة المتهالكةِ علَّ نسماتٍ من الهواء الباردة، تخفف من حرارةِ جسده، فإذا بصوت نباحٍ عالٍ يملأ المكان، فاستيقظ أخي يستطلعُ الخبر، فإذا بجسمٍ صلب يضرب في حماياتٍ الحائط العاري من النوافذ، أدرك أخي أن هذا الجسم ما هو إلا طائرةٌ مسيرة (الكواد كابتر)، والتي لها سوابق إجراميةٌ كثيرة، وأصواتٌ مختلفةٌ تبُثها لإخراج الآمنين العُزَل من بيوتهم، وقتلهم.

 فقد حدث وأن بثت صوت طفلٍ صغير يبكي في منتصف الليل، أو صوت سيارة إسعاف، وكعادة أهل غزة، خرجوا ليساعدوا من هم بحاجةٍ للمساعدة، فاغتالتهم الطائرة، وأنهت حياتهم. أما عن أخي فقد تكوم في زاويةِ الحائط، وبقي على هذه الحالة وقتاً لا بأس به ، إلى حين تراجعت هذه المسيرة المسعورة، وخرج هو يسبُ، ويلعن الصيف، والاحتلال، والعرق، والتكنولوجيا التي طُوعت لقتلنا فقط.

ولكن هل انتهت حفلات التهنئة تلك؟ لم تنته بعد، فقد بدأت المجاعة تضرب، وتنخرُ بطن المدينة، وسمعت صوت قرقرتها يضج في كل البيوت، فقد انتهت البضائع القليلة، ونفذت منها الأرفف، وأصبح الناس في هم لقمة العيش، كنت أرى الناس، وكأنهم سكارى، كنا وحيواناتنا نتقاسم القليل من الأعلاف المتبقية، ونشرب الماء الشائب.

هلك من الجوع من هلك، فبرزت العظام منا، وألواح الصدور، إلى أن شاء الله وخفف عنا ما كنا فيه، فتسربتْ بعض البضائع للمدينة، فهرع الناس لشرائها، ولكن الأسعار كانت أوروبيةً بواقعٍ صومالي، صعبة المنال على المواطن الغزيّ، فتكدست عند أصحابها، واستطاع القليل منَّا شرائها، والبعض الآخر نظر إليها نظرةً محرمة؛ لامتناعها عنه. وبعد انخفاض موجة الغلاء، وحين حصلنا على بعضٍ منها هنَأَنا البائعين ببيعها، وهنأْنا البائعون بشرائها بدمنا!

حلَّ الشتاء باكراً جداً هذا العام، ونحن الذين لم ننتظر وصوله البتة، وتمنينا لو يتأخر أو لا يأتي على غزتنا أبداً، ولكن الرياح عاكستنا، فاقتلعت الخيام، وأغرقتها بماء البحر، هذا البحر الذي أساء لحُسن الجوار الذي دام بينه، وجيرانه النازحين لأكثر من عام، فتطاولت الأمواج، وأغرقت الأطفال، والنساء، وسحبتهم لقعر بحرها، فأمسوا في لُججٍ ثلاث: لجة الليل، ولجة البحر، ولجةُ الزوارق الحربية المتمركزةِ في عرضه. بكى الرجال لعجزهم، وقلةِ  حيلتهم، وبكت النساء، والأطفال؛ لبكاء الزوج والأب،فلا مكان، ولا زمان يتسع لكل هذا القهر والعجز.

 كان على أحدهم أن يكون قرباناً للبحر كي تسكن أمواجه، وتتراجع فأخذت معها عدداً لا بأس به من الأطفال، حينها فقط سكن البحر، وهدأت أمواجه، وخفتت. وحين أطلَّ الصباح بارداً  شاهداً على الجريمة المشتركة، كانت الريح تحاول مسح جريمةِ البحر بتجفيف مائه المتناثر، وإزالة أثره من ملابس الأطفال الهالكين، سمعت الناس يهنؤون من استطاع النجاة من ثلاجة الموت الباردة بالسلامة على خجل، وبحزن شديد.

في السابع والعشرين من نوفمبر أُعلن وقف إطلاق النار في لبنان، فقمنا بدورنا كغزيين بتهنئة إخوتنا اللبنانين بالسلامة، وقد سرى الأمل بداخلنا بأن الفرج قادمٌ لا محالة، وأن هذه الغمة ولا بدّ أنها منقشعةٌ منزاحةٌ يوماً، وإن شعرنا أنفسنا كأيتام العيد، الذين لا ينظر، أو يعبأُ لحالهم أحد. لقد سبحنا البحر بطوله، وعرضه على تعبنا وجراحنا... وتجاوزنا الموت مراتٍ عديدة، فهل سأنالُ أنا، أو الكثيرون غيري كأس الفوز؛ لاستطاعتنا الوصول إلى شاطئ النجاة، نجاةِ المصابين من الحرب، وهل سأحظى بحمدٍ لله على السلامة، السلامة الأخيرة من متعلقاتِ الحرب، وأهوالها...