بنفسج

لست أمًا: هذا من النعم في ظل إبادة جماعية

الإثنين 23 ديسمبر

الأمهات في غزة في ظل الحرب
الأمهات في غزة في ظل الحرب

من النعم التي استشعرتها كثيرًا خلال الحرب؛ أنني لستُ أمًا.. ربما نعرف جميعنا كثيرًا شعور الأمهات وهن يحاولن تهدئة أطفالهنّ وطمأنتهم أوقاتِ اشتداد القصف، تخيلتُ أيضًا أنهنّ ربما تمنّين الولوج إلى داخل نفوس أطفالهنّ لانتزاع الخوف منها واحتضان قلوبهم بدلاً من أجسادهم، أتأمل حال الأطفال دائمًا في كلّ مكانٍ، في الشوارع والبيوت وبين الخيم.

وبين طوابير المياه والتكيات الغذائية وعلى بسطات بضائع بسيطة يبيعونها، يتكلمون كما لو كان أحدًا كبيرًا يناقشك في السعر، أجابني أحدهم ذات مرة وهو كان واضحًا لي لم يتجاوز الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره عن سعر غرضٍ ما: "بعشرين شيكل، هتلاقيه برا -يقصد في باقي السوق- بـ 26 أو 27" أدهشني رده دون أن أطلب منه أصلاً سعرًا أقل..

تلك الدهشة المحزنة والبائسة وليست الدهشة التي بمعنى الفرح.. يزعجني أنهم صاروا يعرفون أنواع السجائر ويبيعونها!! أنّهم يتملقون إليك طلبًا للصدقة..

أفكر في مصير أحلامهم الطفوليّة وأمنياتهم حين يكبرون.. أكانوا سيغيرون آراءهم وقراراتهم مثلنا بناءً على الحرب التي عاشوها! أكانوا سيفضلون البقاء أم المغادرة تحت القصف، أكانوا مع النزوح أم ضده؟ ولم يكن ذلك كلّه أهون عليّ من أصعب موقفٍ حدث أمامي بين أمٍ وابنها.. ولستُ أدري كيف كنت سأتصرف لو كنتُ مكانها..

سألتني شقيقتي مرةً من المرات: "لا أعرف كيف سيفهم هؤلاء الأطفال بعد انتهاء الحرب أنّ الحياة ليست بالشكل الذي عاشوه، كيف عليهم أن يفهموا أن الحياة فيها التزامات غير التزامات الحرب، هناك دراسة وعمل"، لم أرد يومها، لكن مرة خطر ببالي إجابة ساخرة تقريبية: "بنفس الطريقة التي سنعود لنفهم أنوثتنا بعد الحرب"!

أفكر في مصير أحلامهم الطفوليّة وأمنياتهم حين يكبرون.. أكانوا سيغيرون آراءهم وقراراتهم مثلنا بناءً على الحرب التي عاشوها! أكانوا سيفضلون البقاء أم المغادرة تحت القصف، أكانوا مع النزوح أم ضده؟ ولم يكن ذلك كلّه أهون عليّ من أصعب موقفٍ حدث أمامي بين أمٍ وابنها.. ولستُ أدري كيف كنت سأتصرف لو كنتُ مكانها..

كنا نركب في السيارة في المقعد الخلفي ثلاثة، وهذا الطبيعي ثلاثة ركاب في المقعد الخلفي، وراكب واحد في المقعد الأمامي، لكن خلال الحرب مع اشتداد أزمة المواصلات ونقص الوقود، وغلاء أسعار الزيت أو الغاز اللذين استُخدما بديلاً للتشغيل، كنا نركب أربعة في المقعد الخلفي، واثنان في المقعد الأمامي، وربما واحد إضافي يشارك السائق مقعدَه..

في ذلك اليوم كان السائق إلى حدٍ ما عصبيًا ومتوترًا خشيةَ تعطل السيارة في أية لحظة خلال وقوفها، وحينما أوقف السيارة للركاب الجدد الذين هم أمًا وأبًا وثلاثة أطفال أصغرهم بين يدي الأم لا زال رضيعًا، أراد الطفل الأوسط أن يصعد مع والدته، لكن لا مجال لذلك بسبب ضيق المقعد أصلاً وامتلاءه بالركاب.

وكلٌ منا أصلاً بسبب النزوح المتكرر يحمل كثيرًا ويضع أغراضه في حضنه، والأم والأب يخبران ابنهما أنّ عليه الصعود مع والده وأخيه أيضًا إلى جانب الراكب الأمامي، لكنه كان يرفض ويريد أمّه، كان الأب يحاول سحب طفله، والأم تدفعه.. والسائق العجول لا يصبر، وبدأ بالتكلم عن خوفه من تعطل السيارة إن طال وقوفها في أية لحظة.

 ومع أنّي لم أفهم ذلك إلا أنّ كلّ تركيزي كان وقتها مع الطفل، وفي أقسى لحظة مرت عليّ، أغلقت الأم باب السيارة، ورغم ذلك بقي الطفل متعلقًا بالباب مع ازدياد صراخه إلى أن سحبه والده وأغلق الباب قبل أن يحاول الطفل النزول.. في تلك اللحظة تذكرت ما الفائدة من كلّ النصائح التربوية التي تؤكد على التفاهم مع الطفل العنيد ومحاولة إقناعه في لحظة مثل هذه؟! 

أفكرُ أكان هناك خللاً تربويًا أصلاً من البداية مع هذا الطفل، هذا الطفل ربما ليس عنيدًا لكنه ربما لم يحظَ باهتمامٍ كافٍ من والدته بعد وجود أخيه الجديد..