بنفسج

د. أفنان أبو علي: يوميات طالبة طب في زمن الإبادة

الأحد 05 يناير

أفنان أبو علي طالبة طب في غزة زمن الحرب
أفنان أبو علي طالبة طب في غزة زمن الحرب

لم يمر على خوض غمار تجربة حلم العمر إلا بضع أسابيع، ولم تنتهي بعد من ترديد أغنية "ده ما فيش فرحان بالدنيا زي الفرحان بنجاحه"، وما زالت تستقبل المباركات بتفوقها في الثانوية العامة بمعدل 98.6. دق قلبها في اللحظة الأولى التي كانت بها على أول سلم الحلم الكبير، فوضعت قبل اسمها "د. أفنان"، وتخيلت نفسها مرارًا بالرداء الأبيض وهي تجوب بالمشفى تدواي المرضى.

 وتزرع بذرة أمل بشفاء أكيد. احتضنت أول كتبها في عالم الطب فلاقت إعجابها من النظرة الأولى، فحلم الطفولة يقترب رويدًا رويدًا، وما لنهايته إلا سنوات قلال حتى تتفوق وتصبح الطبيبة أفنان أبو علي. وبينما هي تحتفل بتحقيق أمنيتها الطفولية الأولى، بدأت حرب الإبادة، لتنقلب حياتها رأسًا على عقب، ويضحى الحلم سرابًا وتُدمر الجامعة بالبلدورزات الإسرائيلية ليهوى قلبها خوفًا وألمًا.

قضت أشهر طوال تدعو أن تنتهي الحرب وتعود إلى الدارسة التي بدأتها لكن العدوان الإسرائيلي كان يتغول أكثر، ما دفع الجامعات الفلسطينية الغزية إلى تحويل التعليم لإلكتروني، فما كان منها إلا أن تُقسم على إكمال تعليمها في كلية الطب البشري، مهما واجهت من صعوبات، حتى لو كان بينها وبين الموت خطوة واحدة، ستدرس ولن تقبل أن تمر سنواتها هباء.

نحاور الطالبة أفنان أبو علي 19 عامًا، التي تدرس الطب البشري في جامعة الأزهر، لتخبرنا عن العودة للتعليم الإلكتروني في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها غزة، وعن نزوحها من الشمال للجنوب، عن المعوقات التي لا تنتهي في زمن الحرب، والدراسة تحت وقع الغارات الإسرائيلية التي لا تهدأ.


حلم يستحق المغامرة رغمًا عن النزوح

التعليم في غزة.jpg

تقول أفنان: "لم يكن خيار العودة إلى الدارسة سهلًا أبدًا، إذ كنت أعلم أن لهكذا قرار تبعات لكني على الرغم من ذلك قررت المجازفة، فحلم الطب يستحق أن أغامر بكل قوة لتحقيقه، ولم أنس أي حلم من أحلامي التي أُصر على تحقيقها على الرغم من الحرب والنزوح والحالة النفسية السيئة".

نزحت أفنان من شمال غزة إلى الجنوب بعد أوامر الإخلاء الإسرائيلية لسكان الشمال في بداية الحرب، فانتقلت مع عائلتها للمحافظة الوسطى وتحديدًا دير البلح، عاشت أشهرًا طوال لا تفعل سوى انتظار أن ينتهي كل هذا الإجرام، أن تعود البلاد آمنة، وتستيقظ لصباح جامعي تحمل كتبها على كتبها لركض بين أروقة مباني الجامعة للبحث عن مكان محاضرتها، تتخيل أيام زمان فيخرجها من  أحلامها الهادئة البسيطة غارة إسرائيلية عنيفة تُعيدها للواقع الأليم.

تعود بذاكرتها إلى يوم نزوحها الأول قبل حوالي عام من الآن، تضيف: "حقيقة أول الحرب حينما نزحنا لمركز إيواء في دير البلح كان الوضع كارثيًا، يتملكنا الخوف والقلق، ونعيش شيء نعيشه لأول مرة بهذه القساوة، نجونا يومها من الموت ونحن في طريقنا نحو الجنوب الذي ادعى الاحتلال أن الممر الذي يؤدي له آمن، فقد تعرضنا لاستهداف بالقرب من السيارة التي كنا بها وبلطف الله كُتب لنا عمر جديد، ومنذ ذلك الحين ونحن ننجو كل يوم من موت محقق".

أعلنت جامعات من الضفة الغربية في فبراير/شباط المنصرم، مبادرات لطلاب غزة ممن يود منهم أن يعود للتعليم إلكترونيًا، إذ أطلقت جامعة بيرزيت مبادرة بعنوان "إعادة بناء الأمل"، لتلاقي إقبال الطلاب الغزيين، في ما تبعتها جامعة النجاح الوطنية بالشراكة مع صندوق دعم الطالب الفلسطيني واتحاد الجامعات المتوسطية.

تقول أفنان إن الحياة ما قبل الحرب كانت مليئة بالمعيقات التي لا تنتهي، "إن بدنا نحكي مش رح تكفينا الكلمات ولا الوقت"، أما بعد الحرب انقلبت الحياة التي كنا راضين بها لتضيف لهمومنا همومًا أخرى أشد وطأة وأكثر قساوة، وها هي الآن تحاول البحث عن نجاة، وتحاول استيعاب انقطاع الموارد والأغذية.

يُشار إلى أن جامعات من الضفة الغربية أعلنت في فبراير/شباط المنصرم، مبادرات لطلاب غزة ممن يود منهم أن يعود للتعليم إلكترونيًا، إذ أطلقت جامعة بيرزيت مبادرة بعنوان "إعادة بناء الأمل"، لتلاقي إقبال الطلاب الغزيين، في ما تبعتها جامعة النجاح الوطنية بالشراكة مع صندوق دعم الطالب الفلسطيني واتحاد الجامعات المتوسطية، ولاحقًا أعلنت أيضًا جامعات غزة مثل الجامعة الإسلامية والأزهر والقدس المفتوحة وفلسطين، عودتها للتعليم عن بعد لمن يجد القدرة على العودة.

"رغم أنف الحرب".. عودة إلى الدراسة

التعليم الإلكتروني.jpg

على الرغم من انتظار أفنان دورها في طابور الموت التي لا تعلم متى يكون، أصرت بمجرد سماع خبر العودة للدراسة إلكترونيًا الالتحاق بالدراسة. شجعتها عائلتها على خوض الخطوة الصعبة، مرددين شعار "وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا". التحقت بالبداية مع جامعة النجاح الوطنية التي أعلنت استقبالها لطلبة غزة كطلاب زوار، وبدأت تحضر المحاضرات معهم حتى أعلنت جامعتها عن العودة بالفعل للتعليم الإلكتروني.

واجهت صعوبات كثيرة وهي تبدأ دراستها الإلكترونية، ولكنها تحاول التغلب عليها، تقول: "في ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت أجد صعوبة خلال دراستي في البحث عن المعلومات والدراسة كما أريد. وبالنسبة للمحاضرات لا أستطيع حضورها بشكل مباشر فأقوم بتحميلها على الجهاز، إضافة لعدم قدرتي على شحن جهازي وتقديم الاختبارات في البيت فأضطر للذهاب إلى أماكن التجمعات ونقاط الشحن التي تشكل خطرًا على حياة الناس بسبب استهداف الاحتلال لهذه الأماكن".

في كل مرة تلجأ إلى نقاط الإنترنت التي يستهدفها الاحتلال بشكل متعمد، يرتجف قلبها خوفًا من أن تطالها يد غارة إسرائيلية غادرة، تكمل: "صحيح أن الظروف قاهرة وأن الموت يلاحقنا يوميًا ولكن ليس لنا سوى أن نسعى مقتدين برسول الله وبأحاديثه، قال صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"، إضافة إلى أنه مع كثرة الغارات والاستهدافات التي نتعرض لها يوميًا أصبح هناك حالة من الجمود، وأجدُني أكبحُ نفسي بالإيمان وذكر الله".

على أعتاب الحلم

جامعة اللأزهر.jpg

أما عن مستلزمات الدراسة تخبرنا أفنان أنها اشترت آيبادًا قبل الحرب، وجلبته معها في نزوحها ما سهل عليها مهامها الدارسية، تردف: "أدرس على طاولة خشبية صغيرة أحضرتها لي أمي وقمت بتلوينها باللون الأبيض لأنه يشعرني بالهدوء والسلام، وأحاول دومًا أن أوفر بيئة مناسبة رغمًا عن أنف الحرب".

وعلى الرغم من كل الصعوبات تصرّ أفنان على إنهاء فصل دراسي واحد في العام بدلًا من الانتظار، ورغمًا عن اشتياقها إلى شمال غزة الذي غادرته مع عائلتها والقلق الذي يعتريها على الجيران والأهل الباقين فيه والبيت الذي دمرته آليات الاحتلال إلا أنها تحاول تخطي حالتها النفسية التي زعزعتها الحرب والدراسة بكل جد واجتهاد.

وعند سؤالها كيف توفرين الشحن لأجهزتك؟ أجابت: "حقيقة هذا يشكل عبء آخر، أرسل جوالي وآيبادي للشحن بسعر شيكل للجهاز الواحد،وبالنسبة للانترنت فشهرياً 200 شيكل وهي أسعار غير منطقية وأضعاف أسعار ما قبل الحرب". تختم حديثها لبنفسج: "كل اللي كنت بحلم فيه حياة جامعية حلوة وظروف مستقرة، وبيت هادي وصحاب أنقياء معي، وكنت أخطط لإنشاء متجر خاص باللباس الطبي ولكن قدر الله نافذ".