عاش مشتاقًا لعناق يجمعه ب "سارة القلب" كما يحب أن يسميها، يواسي نفسه في أيام الغربة الحالكة بتسجيلاتها الصوتية التي ترسلها له من قلب المحرقة الأشرس في التاريخ الحديث، كان صوتها يرتجف في كل مرة، فتقول: "خايفة يا بابا"، فيعتصر ألمًا بالفراق، لم تكن غربته أبدًا باختياره. أصيب منذ العدوان الإسرائيلي عام 2008، يجوب العالم بحثًا عن علاج لكن لا أفق بشفاء.
وبينما كان يجري العمليات الجراحية اندلعت الحرب، فعاصر حربًا من نوع آخر، حرب الخوف من الفقد، حتى قدر الله له أن يكون زوج الشهيدة وأب الشهيدة أيضًا، وهنا فقد مشروع حياته الذي تمسك بالحياة لأجله وقتما نورت حياته تبددت كل مخاوفه، ولحظة رحيلها أوصدت أبواب السعادة بوجهه، وارتجف من خوفه.
علاء مطر، نال نصيبه من العدوان الإسرائيلي على غزة، كما ناله في عدوان 2008، إذ خرج منها مصابًا بإصابة خطيرة، وكانت حياته آنذاك معجزة، وفي 2023 كان من أهالي الفاقدين، ففقد شقيقه وزوجته وابنته سارة التي لم تتجاوز الست سنوات، يتحدث لنا عن الفراق المر، عن محاولات التداوي من إصابته في غربته، عن لعنة الجغرافيا والحدود.
حينما رحلت "سارة القلب"
في 22 يونيو/حزيران 2024، وبينما كان يستعد علاء لمفاجأة زوجته وابنته بخبر حصوله على لم الشمل في 21 يونيو من السفارة البلجيكية، وصله خبر مفاده: "بنتك وزوجتك استشهدوا"، لم يدرك ما قيل، فما زال الخبر المفرح طازجًا ينتظر الاحتفالات والمباركات من سارة ووالدتها. يقول لبنفسج: "علمت باستهداف عائلتي بعد نصف ساعة، وصلتني رسالة من صديقة زوجتي تسألني هل صحيح الخبر! لم اعرف عن ماذا تتحدث، سرعان ما استوعبت الأمر، قرأت أسماء الشهداء وكذبت عيني، وبينما أنا في حالة الإنكار هاتفني عديلي ليؤكد الخبر".
من يوم فراق سارة وأنا أشعر أن مشروع حياتي ذهب أدراج الرياح، حينما كنت أراها وأسمع صوتها أشعر بأن مشروعي الصغير يكبر، والحياة برفقتها لها معنى مختلف، والتعب لأجلها يصبح هينًا، لكن مذ رحيلها ينطيق صدري وأعجز عن التنفس...
كانت الصدمة على علاء أكبر من قدرته على التحمل، فبينما يحارب جروحه الذي ترافقه منذ سنوات، ويتجول في المشافي وبين الأطباء، كان خبر استشهاد رفيقة الدرب الذي تزوجها في 2017، وثمرة الحب سارة، الصفعة التي هدمت كل أحلامه، ظل أيامًا كاتمًا حزنه في قلبه المجروح، حتى الكتابة الذي يتقنها رفض أن يمارسها ليبوح للورق بمشاعره، حتى جاءت له ابنته سارة في المنام.
يضيف: "زراتني سارة في منامي وهي ترتدي الأبيض، فكانت فاتنة بشكل لا يوصف، ابتسمت وجلبت لي مكيف وأشعلته، ثم قالت: مرتاح يا بابا. وابتسمت وغادرتني، ومن بعدها وأنا اكتب عنها ولها، أبوح بالحزن المدفون وبخوفي الذي لا يزول منذ رحيلها". كان كل ما يرجوه علاء عناقًا ليعوض سنين الفراق، وليلة آمنة هادئة يحكي فيها حكاية ما قبل النوم لصغيرته الوحيدة، التي يعتبرها مشروع حياته الأعظم.
ولكن "إسرائيل" سلبته منه، يكمل لبنفسج: "من يوم فراق سارة وأنا أشعر أن مشروع حياتي ذهب أدراج الرياح، حينما كنت أراها وأسمع صوتها أشعر بأن مشروعي الصغير يكبر، والحياة برفقتها لها معنى مختلف، والتعب لأجلها يصبح هينًا، لكن مذ رحيلها ينطيق صدري وأعجز عن التنفس، فيكون دوائي صورها وصوتها المسجل".
جحيم الحرب
منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة، انقطع الاتصال والإنترنت، مما جعل التواصل صعبًا للغاية ما بين علاء المغترب في بلجيكا وعائلته العالقة في غزة، فكانت زوجته تخرج للشارع في أيام كثيرة لتتصل بالإنترنت، يقول لبنفسج: "ما قبل استشهاد سارة بأسبوع حادثتها وكانت منهارة وحزينة جدًا، بسبب قصف روضتها التي تدرس بها. وحينها اتصلت فيديو وكانت المرة الأولى بالحرب الذي يتيح الإنترنت لنا الحديث بأريحية.
رأتني ورأيتها وجعلتها تشاهد المدرسة من جانبي وأخبرتها أنها ستأتي عندي قريبًا". عندما أخبر علاء صغيرته أنه سيسجلها بالمدرسة في بلجيكا، سعدت جدًا، وقالت بصوتها الطفولي المحبب لوالدها: "بابا فش عندك قصف صح؟" فرد عليها: "هتيجي على أكتر مكان آمن بالدنيا يا بابا.. حضني أنا". فعانقت الصغيرة الهاتف ووالدتها وقالت: "بحبكم". وحينما ضربت المجاعة غزة، احترق فؤاد علاء على ابنته التي لم تدرك بعد معنى الحياة، بوجهها القاس، كانت تشتهي دجاجًا، أخبر علاء والدتها أن تشتري لها ما تريد مهما بلغ ثمنه، وبالفعل تذوقته قبل استشهادها لمرة واحدة، ثم غادرت الحياة.
حدثته زوجته نداء بشعورها الذي يلازمها منذ بدء الحرب، وأثبتته رؤية في المنام، قالت له: "أنا هستشهد"، فرد عليها وقد انقبض قلبه: "ما تحكي هيكا هتيجي عندي ببلجيكا.. وهفسحكم واعوضكم عن ليالي الحرب". يعود علاء بالذاكرة للقاء الأول مع زوجته نداء، تعرف عليها في 2012 أثناء دراستهما بالجامعة، ثم سافر هو للعلاج في القاهرة، وعمل صحافيًا في أحدى القنوات الفضائية هناك، وفي العام 2017 قرر الزواج بها هناك، فساندته في غربته، وكلل زواجهما بالصغيرة سارة، الذي أسماها أسوة بوالدته، ومنذ 1 أغسطس/آب 2018 أضاءت سارة قلب والدها لتغدو الدنيا هينة عليه.
يقول عن فراقهما: "عشنا في القاهرة سويًا ثم اضطرت زوجتي لزيارة غزة لحضور زفاف شقيقها، ووقتها سافرت أنا للعلاج بتركيا، وجهزت لهم الفيزا التركية ليأتوا عندي، لكني اضطررت للسفر لألمانيا بعد فشل علاجي في تركيا، ثم أُجبرت على السفر لبلجيكا لأقدم على لجوء لأكمل علاجي هناك، وظلوا هم عالقين بغزة لحينما الحصول على لم الشمل".
كان علاء يحارب مرضه وحده، فقد أُصيب في رأسه خلال حرب 2008، وتكسر عظم الجمجمة والجبهة، وخضع لأكثر من 20 عملية لتغيير الجزء الصناعي من الجمجمة، في كل من مصر وتركيا وألمانيا وبلجيكا، وجميعهم بائوا بالفشل، يعقب: "13 عامًا وأنا اتنقل بين المشافي، بسبب خطأ طبي أثناء علاجي من إصابتي في غزة".
لمّ الشمل الذي لم يكتمل
بعد استشهاد سارة لم يعرف علاء كيف يدواي شوقه لها، فقرر أن يزور القاهرة، المكان الشاهد على حبه وزوجته، وميلاد سارة، فلم تكن المدينة مجرد مكان له، بل عالم بأكمله فقد شهد على أجمل على أيام حياته، وكما يصفه هو: "انبثق النور لأول مرة في حياتي عند ولادة السارة". يقول: "كلما مشيت في شوارع المدينة تهاجمني الذكريات، أرى سارة في كل ركن، وكل شارع، وضحكة كنا نتشاركها.
كان حبها لي غير مشروط، وضحكاتها بلسمًا، واليوم تظل الذكريات هي كل ما أملكها". لم يعد علاء قادرًا على احتمال مشاهد المجازر في غزة، خصوصًا بعد استشهاد سارة وزوجته وأخيه، يضيف: "لم أعد أملك الجرأة لأرى أمًا تودع طفلها، أو أبًا يحمل بين يديه فلذة كبده، كل فيديو يحمل معه ألمًا جديدًا، أشعر أنني عاجز، مكسور أما هذا الوجع الذي يفوق طاقتي".
ينهي حديثه لبنفسج: "بحاول افتح صور سارة قلبي بنتي وحبيبتي واقنع حالي أنها ما راحت، بحاول أحس بوجودها، اتكلم معها، وأوعدها واحضنها، لكن الحقيقة صعبة، شهور وأنا بضحك على حالي، بس كل ليلة نار بتولع بقلبي، والقهر بياكل روحي".