عام ونيف من مواجهة الموت المحقق، ومن تخيل السيناريوهات القاتلة والتي تودي بصحابها للجنون الحتمي، من أي زواية سيسقط الصاروخ! هل سينهال الركام مرة واحدة فوق الجسد الهزيل! وهل ستتدفق نافورة الدماء وينزف القلب حتى الموت! هل سيطير طرف من الجسد للسماء ركضًا تاركًا صاحبه يأن من ألمه! هل لقب الناجي الوحيد يلوح في الأفق! تساؤلات مزلزلة للثبات النفسي، فلا تفكير في الغد، فهو من الرفاهية، وعلى الرغم من ذلك يبقى خيط الأمل الرفيع الذي يربط المرء بالحياة حاضرًا بقوة، نكاية في العدو الذي يود قتل الغزي ببطيء شديد.
ساعات قليلة وربما يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، يحبس فيها الغزيون أنفاسهم، لا يصدقون أنهم حضروا المحرقة الأعنف في التاريخ، يسألون أنفسهم هل حقًا نجونا! هل هذه نجاة حقًا! ويقف أهالي الشهداء والمفقودين لينتظروا الخبر اليقين ليفتحوا بيوت العزاء المؤجلة، فهل تمنحهم الحياة فرصة لالتقاط الأنفاس قليلًا، لأن يدركوا ماهية ما جرى، لتبحث الأمهات عن أولادها المفقودين في شمال غزة، يتمعننّ في بقايا الجثث لتقول: "صحيح هذا ابني"، وتصرخ صرخة تشق السماء.
جاب مواقع التواصل الاجتماعي سؤال خصص للغزيين وحدهم، ماذا ستفعل عند الإعلان عن وقف إطلاق النار؟! كل منهم أجاب بطريقته ولكن الإجماع كان على البكاء، سيبكون كل البكاء المنتظر، ستعلن الدموع تمردها وشق طريقها لتظهر للعلن. بنفسج يسأل السؤال ذاته فلنرى هنا بعض من إجابات غزيين عايشوا الإبادة الجماعية التي أثخنتهم كمدًا.
"بدنا نبكي بدون صوت الموت"

لم تبكِ نور حمدان منذ بداية الحرب، وفور سماعها عن أمل في انتهاء للحرب، ارتجفت، واقشعر جسدها، تجوب مواقع التواصل الاجتماعي، تقرأ كل خبر بلهفة، وعند سؤالها عن ماذا ستفعل عند انتهاء الحرب؟ أجابت لمنصة بنفسج: "أنا نازحة من شمال غزة للجنوب، تنقلت بين محطات النزوح في رفح وخانيونس والبريج ودير البلح، تعبت جدًا وأود العودة لبيتي، سأركض نحو البيت الباقي في شمال غزة وهذا من حظي الجيد، سأحتضن كتبي وذكرياتي الملموسة التي احتفظت بها لسنوات، وأبكي بكائي المؤجل، سأبكي وأصرخ بعلو الصوت دون أن أسمع صوت القصف العنيف، لقد عدتُ يا غزة لقد عدت".
أما فاطمة ماهر كتبت عبر صفحتها على "فيسبوك": "محمد ابني البكر ذو الثمان سنوات يحدثني بعد صفنة طويلة وسط أحاديث الكبار عن الصفقة وانتهاء الحرب، ماما أنا حاسس انه الحرب حتى لو خلصت حضلني حاسس إنه في حرب، فأخبرته إننا كلنا بحاجة لفترة نقاهة لنتعافى مما عشناه".
" لا أريد مواجهة الواقع بأنني سأعود وحيدة عندما تهدأ الأوضاع من حولي، ستنتهي الحرب نعم لكن ستبدأ حربي أنا مع نفسي"
أما هبة المسحال التي اُستشهد زوجها في غارة إسرائيلية، إذ سمعت صوت استهدافه، ولا تنسى رعشة القلب التي أصابتها وقتها، تقول ل "بنفسج": "لقد تعبت من تخيل الصاروخ وهو يداهمني، ومن النزوح المتواصل، ومن الغياب عن مدينتي رفح، واشتياقي لحبيب القلب، وفي كل مرة تصدر الأقاويل بقرب انتهاء الحرب، يبدأ الناس بالتهليل في مواصي خانيونس، أنزوي أنا وأغلق أذني عن صوت الفرح، لا أريد مواجهة الواقع بأنني سأعود وحيدة عندما تهدأ الأوضاع من حولي، ستنتهي الحرب نعم لكن ستبدأ حربي أنا مع نفسي".
تتحدث هبة ل "بنفسج" أنها ليست متحمسة كثيرًا لوقف الحرب، فلم يعد لديها ما تخسره، لن يتغير عليها شيء، سوى أن تنقل خيمتها من المواصي إلى ركام منزلها في رفح، تعقب: "عدم حماسي لا يعني أنني لن أفرح لوقف شلال الدماء، لكني متعبة وأود البكاء كثيرًا في تلك اللحظة، لكن أكثر شيء يربط على قلبي أن زوجي قضى شهيدًا قدم دماءه فداءً لأرض فلسطين".
ما هو أول مكان ستذهبين له فور إعلان الهدنة المرتقبة؟ تجيب: "بالتأكيد سأذهب أولًا لقبر زوجي، وهذا إن كان ما زال هناك مقبرة، فقد وصلتنا الأخبار بتجريف القبور بالكامل، وثانيًا إلى ركام بيتي إن وجدته ونجحت في معرفة مكانه بعدما أزال الجيش الركام من رفح ونقلها بواسطة شركات خاصة لخارج غزة".
"بدنا ندفن أهالينا"

ديما دياب كتبت على صفحتها عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "كنت بحكي أول ما تصير هدنة راح أروح على المقبرة أشوف قبر أبوي وعمتي وصحباتي كلهم وأدعيلهم بس تذكرت إنه حتى المقبرة تجرفت ومفشي مقابر حتى". رجاء أكرم التي فقدت زوجها وأولادها في رفح، وحاصرتها الدبابات الإسرائيلية من مسافة صفر، ونجت بأمر الله من موت محتم وكنا قد كتبنا قصتها المأساوية في بنفسج، تجيب على السؤال بحرقة: "فور الإعلان عن هدنة، سأتوجه سريعًا لمكان الخيمة التي قضيت بها آخر أيامي مع زوجي وأولادي، لافتش هناك عن كل شيء يخصهم، سأبحث عن أجسادهم الطاهرة لأودعهم وأدفنهم بيدي، حتى لو جمعتهم عظمة عظمة، أود أن أرتاح من هذا العناء والعذاب".
دينا عكاشة النازحة من معسكر جباليا شمال غزة إلى جنوبها، تريد أن تركض بأقصى سرعة للبيت، ستمشي في شوارع المدينة، وتذهب إلى مكان عملها الذي دُمر، وتنصب الخيمة على ركام منزلها في مخيم الثورة. تقول ل"بنفسج": "لحظة إعلان وقف إطلاق النار سأبكي تلقائيًا، سأسجد لله شاكرة لله على أن أحياني لأعيش هذه اللحظة التي كانت حُلم يراودني أنا وجميع النازحين وأهل غزة أجمعين، سأبكي كل الدموع التي كانت مُؤجلة على فراق أحبابنا الشهداء، سأحزن حزننا المؤجل، سأردد وأقول نحن باقون وللحلم بقية". تكمل: "وسأنتظر أن يخرجوا جثمان جارتنا بالحي التي اُستشهدت في ديسمبر 2024، ولم ينتشلها أحد، لأبكيها وأبكي عمي الأقرب لقلبي وبناته، وزوج عمتي الرجل الحنون".
"رجعولنا ولادنا"

فاتن لولو فقدت زوجها الصحافي أحمد بدير، فعلقت على خبر الهدنة المرتقب على "فيسبوك" قائلة: "يقولون يا أحمد بأن الحرب على وشك أن تنتهي، يقولون أيضا أننا سنعود إلى الديار، ولكنهم لم يقولوا لنا كيف ستتوقف آلامنا وكيف ستنتهي جراحاتنا، كيف لروحك وللأرواح التي صعدت إلى السماء أن تعود، كنت متشوقًا لأن تكتب خبر وقف إطلاق النار، كما كنت تفعل في كل الحروب، لكن هذه المرة مختلفة تمامًا يا عزيزي، لن أراك تكتب ذلك على بوابة الهدف، ولن أرى كلماتك التي كنت ترددها دومًا وما النصر إلا صبر ساعة".
فيما عقب علاء مطر والد الشهيدة وزوج الشهيدة قائلًا: "انتهت الحرب يا صغيرتي، يا سارّة قلبي، سيُعلن وقف إطلاق النار الذي كنتِ تسألينني عنه ببراءة الطفولة، لكنني أعلم أن هذا الإعلان جاء متأخرًا، متأخرًا على قلبك الصغير الذي توقف عن النبض، وعلى صوتك الذي كان يعانق حياتي ويملؤها ضحكًا وخيرًا".
سماح حجازي، ستركض نحو عائلتها في شمال غزة بعدما يزول حاجز نتساريم، لتبكي بين يدي والدتها، وتزور قبر والدها وشقيقها معاذ، وشقيقها الثاني الذي ظل صامدًا في الشمال وتحديدًا في بيت لاهيا حيث استهدفته قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد خروجه من البيت مصابًا في عنيه لمشفى كمال عدوان، ولكن فور خروجه قصفته طائرة استطلاع، ليسقط على الأسفلت دون أن ينتشله أحد حتى هذه اللحظة، تنتظر سماح انسحاب الجيش ليتوجه أهلها لإكرام ابنهم بالدفن. آية جودة المغتربة في مصر بعد أن قضت 5 أشهر في الإبادة الجماعية، اكتفت بالقول لبنفسج: "نفسي لحظة الإعلان عن انتهاء الحرب أكون بغزة، ياريت بقدر، لأركض على أرضنا برفح أشوف زراعاتي عندي أمل إنهم ضايلين".
الإجابات على السؤال الذي انتشر كالنار في الهشيم بين أوساط الغزيين، كثيرة جدًا، ومؤلمة أكثر، الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي أحمد الحناوي سأل السؤال ذاته ليرد الغزيين: "ألتقي مع أخويا بالشمال ما شفته لأكتر من سنة، ونزبط اللي ضايل من البيت ونسكره وأنام أنا وأهلي بخير وأمان". وقال آخر"ناخد ابن عمي نعمله عملية جراحية برا غزة الو سنة وثلاث أشهر الشظايا داخل قفصه الصدري".
لتكمل أخرى: "ما هتفرق ولادي الاأربعة وزوجي وعمي استشهدوا وأنا فضلت لحالي بالشمال صامدة ومصابة". فيما رد ممن لهم أحبة تحت الأنقاض، أو من دفنوا في الطرقات، فقال أحدهم: "أول وأهم شي هدفن إمي وأختي في مقبرة بدل مهم كل وحدة مدفونة بمشفى والتانية بملعب كورة".
وتواصلت التعلقيات ليقول الفاقدين، "هزور قبر إمي اللي ما قدرت أودعها وهزور قبر أخويا يلي دفنه ناس أغراب". وترد أخرى: "را أضل أعيط لأنه ما الي ذنب أترمل وأنا لسا ما فرحت ع زوجي وبيتي وما شفت اشي بحياتي ظلموني وأخدوا روحي مني حسبي الله".