تناول الجزء الأول، السابق، من سلسلة مذكرات أحلام التميمي، مرحلة الطفولة والنشأة في الأردن، حتى بلوغها مرحلة مفصلية غيّرت حياتها وتفكيرها ووجهت حلمها نحو العودة إلى فلسطين، والحدث الأكبر الذي غيرّها هو اعتقال نزار البرغوثي، ابن عمها وزوجها لاحقًا، واستشهاد والدته وإقامة عرس الشهادة لها في بيتهم في الزرقاء.
أصبح حلم أحلام العودة إلى فلسطين إلى قرية النبي صالح؛ الإحساس بأرضها وهوئها، والمشاركة في أي عمل نضالي يلبي طموحها وحلمها في المقاومة، لتلتحق بجامعة بيرزيت، ومنها الانضمام لكتائب القسام والمشاركة في الأعمال العسكرية، وهو ما سنتناوله في هذه الجزء وهو الثاني من هذه السلسلة، الذي يلقي الضوء على حياتها الجامعة وهواجسها التي سيطرت عليها عندما عاشت في قريتها، والأحداث المحيط بها وبفلسطين عامة، ومشاركتها بالعمل العسكري ابتداء بالحجر والمقلاع وانتهاء بالمتفجرات.
حجر ومقلاع سابق على البندقية

في نهاية عام 1999، حدث اضطراب شامل وعام داخل السّجون، و تداعيات هذا الأمر ارتدّ على الشّارع الفلسطينيّ، وشعرت بأنّه عندما حصل هذا الاضطراب في السّجون صارت انتفاضة صغيرة، أسميناها انتفاضة الأسرى، واستمرّت حوالي العشرين أو الخمسة وعشرين يومًا، وعمّت حالة الوطنية فجأة، فصرت أشعر أنّ فلسطين تحتاج إلى حدث يعيد إليها المقاومة.
في انتفاضة الأسرى عام 1999، كانت أوّل تجربة لي بأن أمسك الحجر والمقلاع، وكان الشّباب يجهّزون السّواتر، وكانوا يسمّونها ـ(سواتر من حجار). خرجنا من بير زيت، ويومذاك كان هناك نقطة تماس عند حاجز سردة، وكان يوجد نقطة تماس عند مستوطنة (بيت إيل)، وكانت هذه نقطة التماس الكبيرة، والاحتكاك مع جيش الكيان الصهيوني.
الانضمام إلى القسّام: الأحلام أعيشها حقيقة

تعرفت على حركة حماس، وكانت هناك هالة معينة حول الالتحاق بها، ولم يكن هناك منافذ حتى أصلها. لكن من الطّبيعيّ أن تكون هناك حركة طلّابيّة في بير زيت، فقد كانت هناك انتخابات سنوية للطّلّاب تشارك فيها الفصائل، من فتح وحماس وجبهة وديمقراطية، الفصائل الأخرى.
تخصّصت في الصّحافة والإعلام، والشّباب الّذين كانوا يدرسون معي من كتائب القسام، وكانوا يعرفونني وأعرفهم. وعندما كنت أنزل إلى الميدان كنت أتركهم، فقد كان لا يعنيني إن أتى معي أحدهم للمشاركة في التّظاهرات، فقد كان المهم عندي أن أوصل الفكرة التي تدور في رأسي، وأريد المشاركة، وإن انسجمت أفكاري مع فصيل معيّن فسأنضم إليه للمشاركة معه، وإن لم أجد فأنا سأبقى في الميدان وحدي، فأنا ابنة الشّارع الفلسطيني، أنزل للحجر أنزل للمقلاع، أنزل في عجل، فلم تكن لدي مشكلة في هذا الموضوع، لكنّي كنت أتمنى أن أشارك في عمل جهاديّ كبير، لكنّ الرّهان كان على فرضيّة بقاء الانتفاضة، إن كانت ستستمر أم لا.
أحلام التميمي: أول امرأة في كتائب القسام

في تلك المدّة، عرض عليّ بعض الشّباب الّذين كنت أدرس معهم تجنيدي، وتحديدًا من الأخ محمد دغلس، تفاجأت في لحظتها. لقد كنت تحت مجهر حماس، فقد كانوا يتابعونني ويرصدوني، ويعرفونني، لكنّي ما كنت أتوقّع هذا الأمر، وأظنّ أنّ جدّيتي في التّعامل مع الآخرين في الجامعة هي الّتي جعلتهم يطلبون منّي هذا الأمر، فقد كان درسي وعملي هما الأهم بالنّسبة لي، فلا وقت لي للتّرفيه، فعندما كان ينتهي دوامي في الجامعة كنت أذهب إلى العمل بسرعة؛ من أجل تأمين المردود المادّيّ الّذي سأنفق منه على نفسي، ولتأمين القسط الجامعيّ.
كنت في الثّامنة عشرة من عمري عندما حصلت على عضويّة نقابة الصّحافيين؛ ولأنّني أشتغل في المجلة بهذه البطاقة والجنسيّة، فقد كنت أدخل القدس. لقد أجريت مقابلة مع فيصل الحسيني في بيت الشرق الفلسطيني، فقد كان يتم إرسالي إلى القدس؛ لأجري تحقيقات صحفيّة، فقد فكان دخولي إلى القدس طبيعي؛ لأنّني أيضًا لم أكن محجّبة. لقد وجدت نفسي تحت مجهر شباب كتائب القسّام الّذين كانوا يدرسون معي في الجامعة، وكانوا قد أعدّوا دراسة تفصيليّة عنّي، وكانوا يرون بأنّي مناسبة بأن أكون معهم في كتائب عز الدّين القسّام للاعتبارات الّتي ذكرتها.
اقرأ أيضًا: المحرر علي الرجبي: 18 مؤبدًا كٌسرت بإرادة غزة ومقاومتها
كنت الفتاة الأولى في كتائب عز الدّين القسّام، فقلت له:" ليس لديّ مشكلة في ذلك"، فقد كانت لديهم كلّ المعلومات الّتي تتعلّق بحياتي وبمسلكيّاتي. تحدّث معي محمد دغلس، وقال لي:" نحن نريدك معنا في كتائب عز الدين القسام"، وأنا طبعًا انصدمت، لم أتخيّل الموضوع، ومباشرة، قلت له:" أنا موافقة، ما هي المساعدة الّتي تريدونها منّي، كما أنّه لا أمانع عندي بأن ألتحق بكتائب القسام. هذا الأمر كان بالنّسبة لي حُلمًا، وأتى في الوقت الّذي كانت فيه مكاتب السّلطة يعجّ فيها الفساد، فتجربتي مع مؤسّسات السلطة جعلتني أكتشف أنّ أغلبها فيه فساد مالي وإداري، وفي الوقت نفسه لم أكن قريبة من هذا الجوّ، وعندما عُرض عليّ الالتحاق بكتائب عز الدّين القسّام شعرت بأنّ حلمي بدأ يتحقّق؛ لأنّني كنت أرغب في تقديم شيءٍ لفلسطين.
مرحلة تدريب تبعها عمل عسكري

مرّ وقت، وأخبرني بعدها محمّد دغلس بأنّ موافقة الشّيخ أحمد ياسين على الانضمام إلى كتائب عزّ الدين القسّام قد حصلنا عليها، مع أنّني لم أكن محجّبة، وهنا سألته حول موافقة الشّيخ علمًا أنّني غير محجّبة، فأجابني: "أنت سمعتك جدًّا طيّبة، مسلكياّتك رائعة، أخت الرّجال، تدخلين القدس وتخرجين منها بشكل طبيعيّ، وبحجّة أنّك صحافيّة تستطيعين التّنقّل من دون أن يعترضك أحد. كنت أدخل القدس المحتلة الغربية، أدخل بين اليهود. لم تكن عندي مشكلة بالبشرة السّمراء، حتّى إنّ المحقّقين قالوا لي في أثناء التّحقيق بأنّهم ما عرفوني، لأنّني أشبه اليهود اليمنيّين، فاللّون ودرجة السّمار لم تجعلنا نعرفك.
كانت أولى العمليات في 29/7/2001، وقد اخترت "سوبرماركت" كبيرًا، اسمه كنغ جورج، وهذا "السّوبرماركت" كان يدخله للتّسوّق الأمّهات والرّجال تحديدًا، استلمت العبوة، وعلّمني محمد دغلس استخدامها، وقد كان محمد دغلس حلقة الوصل مع أعضاء الخليّة، فأنا ما رأيت عبد الله ولا أي أحد من الخلية أبدًا، صارت نشرات الأخبار تنقل صور الانفجار، فقد كان السّوبرماركت قد تضرّر بشكل كامل.
فلم يتبقَ شيءٌ على الرّفوف، المياه على الأرض، كل ما فيه لم يكن ملقً على الأرض، لكنّ نشرات الأخبار لم تفصح عن وجود قتلى أو جرحى. استغربت الأمر، ورحت أحدث نفسي بأنّنا نريد قتلى وجرحى، فقد خاطرت بنفسي من أجل إيقاع قتلى بهذه العملية، لكن ما كان بحسب الأخبار "الإسرائيلية" أنّ الانفجار لم يسفر عن وقوع قتلى وجرحى، واقتصر الأمر على وقوع أضرار في السّوبرماركت.
" لماذا أبدّد طاقتي بهذه الطّريقة؟ فعلى الأقل يجب أن يقع حتّى جرحى بكلّ عمليّة".أنا لم أستوعب ذلك الأمر، وقلت له:" أكيد هم كاذبون، أو من الممكن أن تكون العبوة الّتي صنعتموها فيها شيء".
لم أصدّق ما تمّ نشره عبر وسائل إعلام العدوّ، لأنّ عدد النّاس الّذين كانوا في السّوبرماركت ينفي ما تمّ نشره. شعرت بالامتعاض، وقلت لمحمد دغلس وأنا في شكّ في العبوة:" لماذا لم يسقط قتلى وجرحى في العمليّة؟"، وأنا لم آتي إلى هنا لألعب، لقد جئت لكي أقاتل". ضحك، وقال لي:" الأمر طبيعيٌّ، ونقوم بعمليّة واثنتيْن وثلاث وأربع عمليّات"، فقلت:" لماذا أبدّد طاقتي بهذه الطّريقة؟ فعلى الأقل يجب أن يقع حتّى جرحى بكلّ عمليّة".أنا لم أستوعب ذلك الأمر، وقلت له:" أكيد هم كاذبون، أو من الممكن أن تكون العبوة الّتي صنعتموها فيها شيء". كان يضحك. لم أسأله عن سبب ضحكته، لكنّني استطعت أن أعرف السّبب، وذلك أنّ العدو لا يريد أن يؤجّج مشاعر الشّاعر والشّعب الصّهيونيّ في بداية الانتفاضة".
وبعد حادثة الاغتيال صدر قرار من القيادة بغزّة بإلزاميّة الرّدّ على عمليّة اغتيال الجمالين تحديدًا. في 9 آب/ أغسطس 2001، أذكر أنّني كنت في دوامي في جامعة بير زيت. رن هاتفي، فكان علي محمد دغلس. استأذنت، وخرجت من المحاضرة. تكلّمت معه، وطلب منّي الحضور إلى رام الله. انتهت المحاضرة، فتوجّهت نحو مستشفى الرّعاية. كان الاستشهاديّ مع محمد دغلس. لم أكن أعرف اسمه، ولا من أين، ولم أره في حياتي. لقد كانت مهمّتي فقط أن أنقل الاستشهاديّ من رام الله.
اقرأ أيضًا: أحلام التميمي: نزار الذي غيّر حياتي [4]
الاستشهاديّ كان اسمه عز الدّين المصري، عرفت اسمه لاحقًا. لقد كانت كتائب القسّام قد عملت على تغيير شكله الّذي كان معروفًا به. الشّارع الّذي كنّا سنتوجّه إليه مليء باليهود، وثقافتهم تختلف عنّا في اللّباس والشّكل، والشّاب المتديّن يجب أن يحاكي ثقافة اللّباس في ذلك المكان. طلبت منه أن يمشي إلى جانبي بهدوء حتّى نصل إلى مكان العمليّة، وأبلغته أنّنا سنصل إلى المطعم، وقلت له بمجرّد ما أنظر في عينيْك تعلم أنّه هو المكان المقصود. الشّابّ كان ذكيًّا جدًّا، كان قريبًا من الله، توّاقًا للشّهادة، وكان يطمح أن يقتل أكبر عدد ممكن من اليهود.
اصطحبْته إلى مقابل مطعم صبارو، وقفنا وأشرت له بعيينيْ أنّ ذالك المكان هو المقصود الّذي تحدّثنا عنه. أنا لم أكن استشهاديّة، أنا تنفيذيّة لمرحلة من المراحل، وقلت له:" انتظر خمس دقائق على الأقل حتّى أخلي المكان، وأعود أدراجي، ثمّ بعد ذلك نفّذ العمليّة. طلبت منه أن ينتظر قليلًا، وفعلًا وصلنا إلى النّقطة المطلوبة. أشرت له، وكان ختام اللّقاء بيني وبينه. ابتسم لي، وقال:" لا إله إلا الله محمد رسول الله".