نائل البرغوثي، يسمونه بـ "عميد الأسرى الفلسطينيين"، فهو أقدم أسير في العالم، قضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي 44 عامًا، منهن 34 متواصلة، تحرر في صفقة وفاء الأحرار "شاليط" عام 2011، ثم اعتقلته سلطات الاحتلال الإسرائيلي مرة أخرى عام 2014، الآن وفي صفقة "طوفان الأقصى" يندرج اسم نائل على قوائم المحررين، ولكنه سيكون مبعدًا عن وطنه وزوجته إيمان نافع الممنوعة من السفر بأوامر الاحتلال، كان رافضًا الإبعاد حتى تاريخ 17 شباط/ فبراير الجاري.
وافق بعدها أن يبعد دون أن يعرف إلى أين الوجهة. تستعرض منصة بنفسج محطات حياتية، في حياة الرجل الستيني الذي قضى ثلثي عمره داخل السجن والذي قال "شهدت تغيير باب السجن مرتين والسبب كان تلف الحديد لكن معنوياتنا لم تتلف" سنحكي عن رحلة الدراسة والعلم، والمقاومة، وتحوله من أبو اللهب إلى أبو النور.
| في سيرة ابن "كوبر"
ولد نائل البرغوثي في قرية كوبر قضاء رام الله، في تاريخ 23 أكتوبر/تشرين الأول 1957، في عام 1967 أي عام النكسة بدأ بالانخراط في صفوف المقاومة، فكان سلاحه حجرًا يقاتل المحتل به. تقول شقيقته حنان، إنه كان يبلغ 10 أعوام فقط من عمره، عندما هُدد أهالي قرية كوبر، وإرغامهم على رفع الرايات البيضاء، استعدادًا لاجتياج الجيش للقرية، فما كان منه رفقة أخيه عمر وابن عمه فخري، إلا الصعود فوق البناية، جامعين الحجارة، ينتظرون اقتحام الجيش، وهم يرددون "الله أكبر".
لم يكن هذا الموقف الوحيد للطفل نائل، فقد كان محاربًا فريدًا من نوعه، تذكره حنان بطفل لم يعش طفولته، فكان يحرث في الأرض مع والده دائمًا، لم يكن يفوت مرة، وحينما كان يلعب "البنانير مع صغار الحي، وقع وقُطع طرف من إصبعه، فعاد للعب وهو ينزف، حتى فاز، ومن يومها أُطلق عليه لقب "نائل.. أبو اللهب".
كبر الطفل، وكان له دورًا بارزًا رفقة عمر وفخري، في مقاومة الاحتلال، إذ شكلوا مجموعة نضالية، مهامها تتمحور حول إغلاق القرى في المناسبات الوطنية، الكتابة على الجدران والتعبير عن رأيهم، وتنظيم المظاهرات الاحتجاجية، سرعان ما بدأت العمليات النضالية تكبر كلما كبر نائل ورفاقه، فعكفوا بشكل جماعي على تصنيع متفجرات بدائية، لينخرطوا في الطريق النضالي حتى عام 1977، فقد سافر أعضاء الخلية المقاومة، عمر وفخري، إلى بيروت، ليبقى هو لوحده، وليندمجا هما في دورات عسكرية، وندوات ثقافية في المجال السياسي.
اقرأ أيضًا: المحررة رولا حسنين: كاد السجن أن ينسيني ملامح طفلتي
لم يطل افتراق الرفاق الثلاثة، فعادا إلى كوبر بعد مدة ليست طويلة، وكان قد اعتُقل نائل في عام 1977، لمدة وجيزة إذ كان بالثانوية العامة، بزعم محاولة الالتحاق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليخرج وينفذ العمليات المقاومة ضد الاحتلال، ومن ثم يعاد اعتقاله مرة ثانية وهو على وشك الدخول لقاعات امتحانات الثانوية العامة.
| أبو النور: حجارة الوادي أقوى
أما عن علاقته برفيق الجهاد أخيه عمر، تحكي حنان البرغوثي أن شقيقها عمر لاحظ تمزق كتب ودفاتر نائل، فاستغرب جدًا، ما دفعه لتفتيش الشنطة المدرسية للبحث عن أسباب محتملة لتمزق ما يوجد داخلها، ليجد أكوام من حجارة الوادي داخل الحقيبة الصغيرة، وعند سؤاله ما الذي تفعله بتلك الحجارة كل يوم من قرية كوبر إلى مدرستك في بيرزيت، فرد أنه يجب أن يكون مستعدًا لأي طارىء قد يتسبب به جنود الاحتلال، فسأله: ألا يوجد حجارة في بيرزيت، فيجيب مؤكدًا أن حجارة الوادي أكثر قوة وضرواة على الاحتلال.
في عام 1978 اعتقلته قوات الجيش الإسرائيلي رفقة شقيقه عمر وابن عمه، بزعم قتل ضابط إسرائيلي، وتنفيذ عمليات عسكرية، منها تفجير مقهى في القدس، وحرق مصنع للزيوت، وحكم عليهم جميعًا بالسجن المؤبد و18 عامًا، وفي عام 1985 وبينما والده معتقل إضافة لعمر، أفرجت سلطات الاحتلال عن عمر تبعًا لاتفاقية مع الجبهة الشعبية، ولكن الصفقة لم تشمل نائل، وقضى والده حكم العام ونصف كاملًا.
لم يكن يتبع نائل لأي فصيل سياسي فلسطيني طوال فترة شبابه الأولى، حتى عام 1983 انضم إلى حركة فتح وهو داخل السجون، ومع بزوغ حركة حماس وظهورها ضمن الحركات المقاومة للاحتلال، التحق أخوه عمر بها ثم تبعه نائل، ليحول لقبه من أبو اللهب إلى أبو النور كما كان يناديه رفاقه في كتائب عز الدين القسام في السجن.
بقي أبو النور في السجون الإسرائيلية 34 عامًا على التوالي، تعلم خلال تلك الفترة اللغتين الإنجليزية والعبرية، ووطد علاقته مع الأسرى، وفي عام 2011 عُقدت صفقة وفاء الأحرار، ليفرج عنه وليعود لقريته كوبر، ويتزوج من إيمان نافع، وليشرع دراسته في التاريخ بجامعة القدس المفتوحة، لكنه خرج مفتقدًا لوالديه، إذ توفي والده عام 2004، ثم والدته في العام نفسه، دون أن يحظى بلقاء أخير.
| إفراج وإبعاد
بينما كان نائل البرغوثي يؤسس أسرة مع الأسيرة المحررة إيمان نافع، اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد 3 سنوات من الحرية، بتهمة التحريض على العنف، بعد ندوة ألقاها في جامعة بيرزيت إذ اعتبرته مخالفة لقواعد وشروط الإفراج التي تحتم الإقامة الجبرية. شاركته إيمان نفس المصير إذ اعتقلت في العام 1987 جراء الانتفاضة الفلسطينية.
وحكم عليها بالسجن لترزح فيه عشر سنوات، رآها نائل عبر التلفاز وقتها وظلت في باله بأن تكون شريكة حياته إن كُتب له الحرية يومًا ما، في البداية لم تكن تعرف نيته، في العام 1997 أفرج عن إيمان ليطلبها نائل رسميًا، ولكن لم يتم الأمر لظروف معينة وقتها.
"لو أنّ هناك عالم حرّ كما يدعون، لما بقيت في الأسر حتى اليوم، وإن محاولات الاحتلال لقتل إنسانيتنا لن تزيدنا إلا إنسانية"
فور الإفراج عنه جدد نائل طلب خطبتها، لتقبل، ويتزوجا في 2011 لتعيش معه حوالي 34 شهرًا قبل اعتقاله مرة أخرى، وعقبت آنذاك: "كان زواجنا عرسًا وطنيًا". كان في تلك الفترة مهتمًا بالزراعة في حديقة المنزل، زرع الزيتون والبرتقال، ولكنه أسر مجددًا قبل أن يتذوق حصاد زرعه، حكم عليه بالسجن وقتها لعامين ونصف، ثم جدد الحكم بالمؤبد، وأثناء تلك الفترة العصيبة توفي رفيقه في الدم والسلاح عمر، بفايروس كورونا.
اقرأ أيضًا: القصص المنسية: قصص تستحق أن تُروى
وخلال فترة "طوفان الأقصى" اُعتقلت زوجته إيمان لمدة 3 أشهر مع الحملة العسكرية ضد الأهالي في الضفة الغربية، بالتزامن مع حرب الإبادة الجماعية في غزة. تستذكر شقيقته حنان الزيارة الأخيرة لعمر ونائل لها في العيد، إذ كانت المرة الأولى التي يكونان فيها سويًا عندها، أشعلت أغنية "وتزيني يا دارنا بالثوب الغالي.. ورجعوا الغوالي". لترى نائل يخرج الفراطة ويعيد الصغار بها.
ثم جاءها مبتسمًا وهو يقول: "مش هيك كان يعمل أبوي". الآن قدر لنائل البرغوثي أن يكون على قوائم المحررين، ولكنه سيكون مبعدًا خارج فلسطين، ومنعت زوجته من السفر، وهنا نقول كما كان يردد نائل دومًا: "لو أنّ هناك عالم حرّ كما يدعون، لما بقيت في الأسر حتى اليوم، وإن محاولات الاحتلال لقتل إنسانيتنا لن تزيدنا إلا إنسانية".