ألم تمضِ بنا الحياة، على اختلاف أعمارنا وألواننا ومعتقداتنا، ونحن منهمكين في البحث عن مصطلحاتٍ شعرنا بها ونسينا أن نفكّر -حقًّا- فيها السّعادة، نصف عمر المرء إن لم يكن كلّه ضاعَ أملًا في إيجادها. الحب، من النّاس من قلّبَ أحبّة أكثر ممّا تقلّب على سريره طوال عمره باحثًا عن الحبيب المنشود، الحبيب الأسطورة الّذي يجعله يقول: وجدتُه! السَّلام، والاستقرار، والنّجاح، والفوز، ألم تخلق كل هذه المصطلحات خوفًا مقابلًا لها؟
تعالَ عزيزي القارئ أخبرك بسرّي. السّعادة؟ هنا تمامًا، في أعمق نقطة فيك، في البداية. عشتُ ربعَ قرنٍ -قيلَ أنّه من أثمن سنين العمر إذا عشتُ طويلًا لأتذكّره- وأنا أنبّش عن السّعادة، رسمتُ لوحةً سعيدة لعائلتي، حتى كبرت وعرفت أنّ الحياة لا تشبه اللوحة، وأنّ الخطى تنفصل، وأنّ العائلة تظلّ في القلب دائمًا، ولكنّها لن تعيش العمر كلّه على طاولةٍ واحدة. وقتَها، بدأت بالبحث عن السّعادة في شيء آخر...
ما هي السّعادة؟ ما هو هذا الشيء الّذي فاتنا ونحن نغرق في البحث عنه مئة غروب، وألف زهرةٍ نمت في الرّبيع، وبدايات مطر كثيرة، ونهايات مواسم، ولذة تعافي القلب بعد انكساره؟ إذا كانت السّعادة حقًا فيما اعتقدنا سابقًا أنّه هي، فلماذا لا يؤلم القلب إلا ما رأيناه أسعد الذكريات؟
أنهيتُ مرحلتي الأولى في الجامعة، ولم أسعَد. قلتُ أنّ السّعادة في العمل، عملت ونجحتُ في عملي، لكنّني كنت أقرب إلى جمادٍ منّي إلى إنسان، آلة بارعة في عملها. أكملت التعليم العالي، قلتُ هي هذه، لكنّني شعرتُ دائمًا أنني آلة، قادرة على الكثير، عاجزة عن عيش صدق الشّعور. وهنا.
ودعني عزيزي القارئ أنقل القادم مخاطبةً لك: فكّر، ما هي السّعادة؟ ما هو هذا الشيء الّذي فاتنا ونحن نغرق في البحث عنه مئة غروب، وألف زهرةٍ نمت في الرّبيع، وبدايات مطر كثيرة، ونهايات مواسم، ولذة تعافي القلب بعد انكساره؟ إذا كانت السّعادة حقًا فيما اعتقدنا سابقًا أنّه هي، فلماذا لا يؤلم القلب إلا ما رأيناه أسعد الذكريات؟
هل جرّبت يومًا أن تنظر إلى صورة تجمعك بعائلتك وأنت طفل؟ شعور الحضور الكامل لأشخاصٍ ربّما تدفع عمرك كلّه اليوم لتقضي معهم دقيقة أخرى؟ هل شعرتَ بانكسارٍ في داخلك؟ ألم تقل في نفسك أين هذه الأيام؟ ألم ينكسر قلبك شوقًا لما مضى من سعادة؟ إذا كانت السّعادة في الأيام التي عشنا فيها فكرتنا عن السعادة، لماذا تكسرنا اليوم؟ أقولها عنك، لأنّنا علِقنا.
اقرأ أيضًا: ذاكرة الصباحات ونوستالوجيا الطفولة
لم نحدّث قاعدة البيانات فينا -إنّ أسقطنا لغة العصر على أنفسنا- وبقينا نسخةً قديمة لم تعد تخدم اليوم أحدًا. نعيشُ في عالمٍ مليء بالتظاهر، أليس هذا شكل من أشكال البحث عن السّعادة؟ أعطيك مثالًا، لماذا يستمرّ النّاس في مشاركة صورهم في مناسباتهم السّعيدة على مواقع التواصل الاجتماعيّ؟ لماذا لم يبقَ شاب ولا شابّة إلا والتقطوا صورًا لأيديهم المتعانقة؟ أليست هذه لحظة مشاعرٍ خالصة؟
كيف يتذكّر المرء في فيضان مشاعره التقاط صورة عبر الهاتف، ومشاركتها، والتفكير في اقتباس ما، إلا لأنه يريد أن يقول للعالم: انظروا، أنا سعيد، أنا مثاليّ، أنا محبوب. ولماذا يمتعض آخرون من كلّ هذه "الرومانسيات" المشارَكة من الآخرين؟ لأنّهم بذلك يخلقون معايير أخرى للسّعادة قد لا يستطيع الجميع مطابقتها.
كيف تكسر نمط السعادة التّعيس الذي صار عادةً متبنّاة لا تمثّل إلا تظاهرًا بالسّعادة؟ بأن تصحو من النوم، ثمّ تقرّر أنك اليوم ستجرّب شيئًا جديدًا، تجرّب أن تحيا لأجل أن تحيا، تمامًا كالّذين قالوا ب"الفنّ من أجل الفنّ"، وأن تتبنّى تيّارًا تسمّيه الحياة من أجل الحياة. ألّا تنشغل كثيرًا بتنسيق ألوان ملابسك حسب صيحات الموضة، إذا كان قد بقيَ في خاطرك أن ترتدي لونين لا يجتمعان إلا عند فاقد العقل، كُن فاقد العقل الّذي سيراه زملاؤك في العمل اليوم، وألّا تحاول اليوم أن تثبت أنّك ناجح وسعيد ومثاليّ، قل لنفسك أن الوقت حان لتكسر القالب، أنا اليوم فاشل، غدًا ناجح، أن تحطّم دلالات الكلِم.
أوتدري عزيزي القارئ ما هي السعادة عندي؟ لا أعرف. لماذا؟ لأنني تخلّيت عن البحث عنها منذ وقت طويل، السّعادة ليست شيئًا تبحث عنه، السّعادة هي هذه اللحظة، وهذا ليسَ تكرارًا لجملةٍ سمعناها كثيرًا: السّعادة هي هذه اللحظة، بل لأنّ هذه اللحظة كلّ ما تملك، هذي حدودك، ووعيك بمحدوديتك أن تعرف بأنّك صاحب هذه اللحظة فقط. لا يجب عليك أن تبتسم حتى تقول أنّ هذه اللحظة سعيدة، تعلّم أن تعيش صدق الشعور في الحزن والألم، تكون قد عشتَ السّعادة. السّعادة، هي أن تستطيعَ عَيش اللحظة التي لا تملك سواها، معطيًا إيّاها كلّ حقّها، حزنًا أو فرحًا أو ألمًا أو اشتياقًا أو احتراقًا، صدّقني، المفقود في عصرنا ليس السّعادة، بل الصّدق.
ها نحن ذا، كنت أفكّر، لماذا جُنّ قَيس، وهامَ عنترة، لماذا سأل درويش بإصرار "يا حبّ، ما أنت؟" ما الّذي يجعل الباحثين عن الحبّ يعيشون في ألمٍ فريدٍ من نوعه؟ ثمّ نظرتُ إلى نفسي، متى كانَ الحبّ وجعًا في القلب، ومتى كان فراشة في المعدة؟ لماذا نتّفق مع درويش بأنّنا لا نريد من الحبّ غير البداية؟ ما الّذي يجعل البداية بهذا الرونق، وأين تطير الفراشات التي تحلّق في المعدة بعد ذلك؟
اقرأ أيضًا: تفاصيل نذوي إليها بأمان
لماذا نبكيها ونبحث عنها ويخون الرّجال لأجلها وتبكي النساء عمرًا علَيها؟ لماذا يرمي كلّ طرف على الآخر ذنب فقدانها؟ ما هي النقطة الفاصلة الّتي تتحول فيها هذه المشاعر السّاحرة إلى ساحرة على عصا تضربُ القلبَ فيها؟ ثمّ أيقنتُ أن البداية ساحرة إلى هذه الدرجة لأنّها خالية من التوقعات، كلّ ما يريده المحبّ فيها أن يرى الآخر، أن يسمع عنه ومنه، وأن يحدّثه عن نفسه، وأن يضحكا معًا على الأشياء. مع الوقت، يصيرُ المرء أكثر "نضجًا" بمفهومه، يبدأ بالبحث عن معاني أبعد، وتجارب أعمق، ومراحل جديدة، وتطوّرات، وحفل زفاف، وأطفال، ورحلة عائلية، وصورة جماعية، وسلّم لا ينتهي من الترقيات.
الحبّ، أعزّك الله، أن تراني بمساوئي ومحاسني، ثم تشتري خاطري، ثمّ تقول لي أنتِ حرّة حتى منّي. الحبّ، أن أقول لك أنتَ في مساحتك الخاصّة، تستقبلني معك؟ وأن يقف كل واحد منا محترمًا حدود الآخر، وحدوده هو نفسه، أن نضحك معًا ثم نلتفت إلى شؤوننا، ألّا نغيّر في الآخر شيئًا، أن نقبَله على ما هو عليه. الحبّ ألا تفقد نفسك، ولا تضيع في الآخر، وإلّا، لماذا جُنّ قَيس؟
الحياة سحرٌ خالص، تركيبة إلهية من نور، صعود وهبوط، قمم وقيعان، نجاح وفرح، وصلٌ وفَصل، هل يختار عاقلٌ أحد اثنين ويرفض الآخر؟ الحياة أن تعيش كلّ شيء تريده، أن تعيش صدق الشعور، ألّا تحكم على الآخر لأنه مختلف، وألّا ترفض المختلف لأنّه ليس نسخة أخرى عنك. الحياة أن تعيشَها راضيًا بما تملك، لا تمدّ فيها عينيك إلى ما يتمتّع به غيرك، لا تحمل في قلبك على أحد.
الحياة أن تدرك أنّك أهمّ ما في هذا الكون كلّه، وأن تدرك في الوقت نفسه، أنّ كلّ قضاياك، لا فرق بينها وبين رفرفة جناح فراشة في مكانٍ بعيد، كلاكما حركة وثبات، كلاكما عند نفسه العالم كلّه، وكلاكما: لا تملكان سوى هذه اللحظة.
ليس لأنّك مخلوقٌ من نور، بل لأنّ فيك من روحه. تذكّر عزيزي القارئ، أنّ ما فيك سحرٌ بحدّ ذاته، وما حولك سحر، وما تحتك وما فوقك سحر. ألا تقرأ إلّا الكلم؟ ألا تقرأ الشجر؟ والغيوم؟ والهواء؟ والضّحكات؟ والنّاس؟ وبيوت النّمل؟ اقرأ، ولا تقل ما أنا بقارئ.
الحياة أن تدرك أنّك أهمّ ما في هذا الكون كلّه، وأن تدرك في الوقت نفسه، أنّ كلّ قضاياك، لا فرق بينها وبين رفرفة جناح فراشة في مكانٍ بعيد، كلاكما حركة وثبات، كلاكما عند نفسه العالم كلّه، وكلاكما: لا تملكان سوى هذه اللحظة. هذا، عزيزي القارئ "وعي بالمحدودية"، ترحيبٌ بالجديد، رغبة في ترك الأثر، رغبة في الاسترخاء، وقناعة بالحقيقة.