في كل صباحٍ كانت تُمسك بقلمها، تبحث عن الحقيقة، وتنقل صرخات المظلومين إلى العالم، لكن الحرب لم تكتفي بأن تسرق منها صوتها الصحفي، بل اختطفت أيضًا رفيق دربها، زوجها الحبيب، الشهيد خليل رزاينة.
دينا فروانة، الصحفية التي اعتادت أن تكون في قلب الأحداث، وجدت نفسها اليوم في قلب الألم، ليس فقط بصفتها شاهدة على جرائم الاحتلال بحق شعبها، بل ضحية فقدت سندها وشريك حياتها. خليل، ذاك الشاب الطموح الذي لم يكن مجرد زوجٍ لها، بل كان الأب الحاني، والصديق الوفي، ورجل الأعمال المجتهد الذي كافح ليبني لأسرته الصغيرة حياةً كريمة.
لكن، وفي لحظة واحدة، ترك كل شيء حين رأى وطنه ينزف، فلم يتردد في أن يكون حيث يجب أن يكون، مدافعًا عن شعبه، موقنًا أن الحياة بلا كرامة ليست حياة. "كان يقول لأطفالنا معاذ وعبادة: أنا أتعب لأجلكم، ولن أسمح بأن تُهانوا يومًا"، تروي دينا بعيون يغلبها الألم. لم يكن خليل مجرد أب، بل كان حكاية من الحب والتضحية، صديقًا لمن عرفه، سندًا لكل محتاج، رجلًا قلبه نقي، لا يعرف الحقد، ولا يتأخر عن العطاء. رحل خليل شهيدًا، وبقيت دينا لكن قلبها مثقل بحزن الفقد، وحلم لم يكتمل.
من المخيم إلى ريادة الأعمال... ثم إلى لقاء الله
في أزقة مخيم جباليا، حيث تختبر الحياة صبر الصغار قبل الكبار، نشأ خليل رزاينة على التحدي والمثابرة. لم يكن طفلاً عاديًا، بل كان يحمل في داخله طموحًا يتجاوز حدود المخيم الضيقة، ويسعى إلى رسم مستقبله بيديه. لم تكن الظروف القاسية عائقًا أمامه، بل كانت وقوده للنجاح، فكان طالبًا متفوقًا منذ الصغر، يحصد المراتب الأولى حتى حصل على معدل 90% في الثانوية العامة، ومنها شق طريقه إلى عالم الهندسة والتجارة، فدرس هندسة الميكاترونكس ثم التجارة باللغة الإنجليزية، واضعًا أمامه هدفًا واضحًا: أن يكون له مكانه بين رواد الأعمال في غزة.
بذكائه واجتهاده، صنع خليل لنفسه اسمًا في عالم تجارة السيراميك والبورسلان، وتمكن في وقتٍ قصير من أن يصبح أحد رجال الأعمال الصاعدين، ففتح الله عليه برزقٍ وفير، لكنه لم ينسَ يومًا من أين بدأ. ظل ذاك التاجر الصادق، النبيل، الذي لم تبهره الأرباح بقدر ما كان يؤمن أن العمل أمانة، وأن الرزق بركة. لكن، حين جاء وقت الاختبار الأكبر، حين تحول المخيم الذي صنع طموحاته إلى ساحة حرب، لم يتردد لحظة في ترك كل شيء، ليكون حيث يحتاجه وطنه.
رحل خليل عن الدنيا كما عاشها، شجاعًا، صادقًا، وفيًا لحلمه الأكبر... فلسطين. لم يكن خليل رجل أعمال غارقًا في تجارته، ولا مدافعًا عن أرضه انعزل عن أهله، بل كان أبًا حاضرًا، زوجًا مُحبًا، وعاملاً مخلصًا. رغم انشغاله الكبير، كان دائم الحرص على أن تكون أسرته في قلب يومه. لم تكن تمر ساعات دون أن يطمئن على زوجته وأبنائه معاذ وعبادة، يتصل، يرسل الرسائل، يسأل عن تفاصيل يومهم، يشاركهم قراراتهم الصغيرة قبل الكبيرة. وفي الإجازات، كان كل تفكيره منصبًا على كيف يقضونها معًا، وأي مطعم سيختارونه، وأي الأماكن ستكون أجمل لضحكاتهم.
أما كأب، فكان نعم السند، لم يكن مجرد والد يُلبي احتياجات أبنائه، بل كان لهم الحضن الدافئ والمعلم والصديق. يُساعدهم في دراستهم، يوجههم، يغمرهم بالحب والدلال، وكأن الدنيا خُلقت فقط لأجلهم. كان يرى مستقبله في أعينهم، ويضع كل جهده ليكونوا رجالًا كما كان يتمنى.
لم يكن استشهاد ثلاثة من أشقائه مجرد فقدانٍ عابر في حياة خليل، بل كان علامة فارقة. كان يردد دائمًا أن الشهداء ليسوا خسارة، بل هم الفائزون الحقيقيون، ونحن مَن خسرنا بغيابهم. لكنه لم يستطع إخفاء وجعه على شقيقته الكبرى، سمر، التي كانت له بمثابة أم ثانية، تستوعبه وتحتضن أحلامه. ورغم كل الألم، ظل ثابتًا، صابرًا، مؤمنًا أن دربهم هو دربه، وأن الله سيجبر قلبه يومًا بلحاقه بهم.
حين بدأ العدوان على جباليا، تهاوت البيوت فوق أهلها، ونزح الجميع غربًا نحو غزة، لكن خليل اختار طريقًا آخر، اختار العودة شمالًا، إلى المخيم الذي احتضن طفولته وأحلامه، إلى حيث المعركة الحقيقية. كان بإمكانه أن ينجو بنفسه كما فعل كثيرون، لكنه رفض، قرر البقاء والصمود، ورفع شعارًا لم يحد عنه أبدًا: "الموت ولا المذلة".
ثبت خليل، فثبّت الله أقدامه، ومنحه ما تمنى طوال حياته... حسن الختام، شهادةً على أرض المخيم.حين سألته زوجته، عبر رسالة نصية، عن مصيره وقد أُحكم الحصار عليهم، أجابها بثبات: "لا شيء... صامدون". وقبل استشهاده، كتب على صفحته في "فيسبوك": "اغرسوا في قلوبكم نية الشهادة، فإما أن نُكرم بها أو نموت ونحن على الطريق".
في نوفمبر 2024، قُصف المنزل الذي كان فيه خليل وعدد من النازحين، وسقط البناء فوق رؤوسهم، لكنه خرج منه بأعجوبة، بجروحٍ طفيفة، وكأن الله كان يُمهل روحه قليلًا، ليكمل طريقه حتى النهاية. لكنه لم يتراجع، لم يستسلم، واصل المسير، حتى كتب الله له الخاتمة التي سعى لها.
"اغرسوا في قلوبكم نية الشهادة، فإما أن نُكرم بها أو نموت ونحن على الطريق".
لم يكن خليل شابًا عاديًا، كان استثنائيًا في كل شيء، من طالب الهندسة والتجارة إلى رجل أعمال ناجح، كان يمكنه أن يستمر في بناء ثروته، أن ينشغل بتجارته، أن يعيش حياة آمنة مستقرة، لكنه اختار طريقًا آخر. ترك تجارة الدنيا، ليُتاجر مع الله التجارة الرابحة، ورحل إلى ربه مقبلًا غير مدبر، في جباليا، "أم المعارك" كما كان يسميها، تاركًا خلفه حكاية بطلٍ لن تُمحى من ذاكرة الوطن.
أما زوجته، فلم تترك بابًا إلا وطرقته في محاولة لإقناعه بالخروج، لكنه في كل مرة كان يطمئنها، يعدها بالعودة، ويقول لها بثقة: "إن شاء الله خير... تُفرج". لكنه عاد، لكن ليس كما أرادت، بل كما أراد هو... شهيدًا، باسمًا، طاهرًا، تاركًا خلفه أثرًا لا يُمحى، وسيرةً تبقى درسًا للأجيال.
الاتصال الأخير... وصية شهيد
كانت آخر مكالمة بيننا قبل خمسة عشر يومًا من استشهاده، لكننا لم نتمكن من الحديث طويلًا بسبب ضعف شبكة الاتصال. كل ما استطاع قوله هو أنه بخير، ثم انقطع الاتصال. أما المحادثة التي سبقتها، فكانت مختلفة.. أخبرني يومها أنه مشتاق لي وللأولاد، وأنه سيعود قريبًا ليحدثنا عن كل شيء. أوصاني بهم كثيرًا، قائلاً: "ديري بالك عليهم، جبيلهم شو ما بدهم، خليهم يحفظوا قرآن".
كانت كلماته تحمل في طياتها شوقًا واهتمامًا، لكنه لم يكن يعلم أنها ستكون وصيته الأخيرة. لم يخطر ببالي للحظة أن تلك الكلمات كانت وداعًا.. خليل كان دائم الحديث عن الشهادة، كثيرًا ما كتب عنها في منشوراته، وكنت أراها مجرد كلمات اعتدت عليها منه، خاصة في ظل الحرب المستعرة التي كنا نعيشها، حيث كانت حياة كل فرد في غزة مهددة في أي لحظة.
لكن عندما وصلني خبر استشهاده، كان وقع الصدمة لا يُحتمل.. لم أتوقع أبدًا أن أكون في هذا الموقف، كنت أعيش على أمل عودته، أعد الأيام للقائه، أجهز له كل ما يحتاجه، وأنتظر بشوق أن أسمع صوته من جديد. لكن رغم كل ذلك، استقبلت الخبر بالصبر والاحتساب، والفخر.. فقد نال ما كان يتمناه دائمًا، ورحل كما أراد.. مقبلًا غير مدبر، شامخًا ثابتًا حتى آخر لحظة، والحمد لله الذي رزقه حسن الخاتمة كما كان يدعو دائمًا.
الصغيران عبادة ومعاذ
لم أكن أملك الجرأة لأخبر أولادي بالنبأ.. لكنهم عرفوا وحدهم. رأوني أبكي، استمعوا لأحاديث المعزين، وربطوا بين الوجوه الحزينة والكلمات المتقطعة. يومها نظر إليّ معاذ بعينيه الصغيرتين الممتلئتين بالدهشة والألم، وقال لي: "ماما، كل هالناس اللي اجوا وما بدك أعرف إنو بابا استشهد؟".
"ماما، انتي ليش روحتينا من عند بابا؟ كان متنا معه!". وأحيانًا يباغتني بسؤال يُثقل قلبي: "ماما، انتي بدك تعيشي ولا تموتي؟ ماما، أنا بدي أموت وأروح عند بابا عالجنة!"
لم يكن الأمر سهلًا.. أسئلة صغاري تمزقني كل يوم، تجعلني أبكي بلا توقف. عبادة، صغيري الذي لم يتجاوز الأربع سنوات ونصف، يعاتبني بحزن قائلاً: "ماما، انتي ليش روحتينا من عند بابا؟ كان متنا معه!". وأحيانًا يباغتني بسؤال يُثقل قلبي: "ماما، انتي بدك تعيشي ولا تموتي؟ ماما، أنا بدي أموت وأروح عند بابا عالجنة!".
أما معاذ، ابن الست سنوات، فيكتم حزنه في صدره.. لكنه يخبرني أحيانًا: "ماما، لما ببكي بدون سبب، بكون ببكي على بابا". لم يعد لأي خسارة معنى بعد أن فقدت خليل.. كل شيء يُعوّض إلا الإنسان، وكل ألم يمكن احتماله إلا ألم الفقد. حين دُمّر منزلنا، وحين قُصف محل خليل التجاري، كنت أردد كلماته التي كان يواسيني بها دائمًا في وجه كل مصيبة: "زينا زي هالناس يا أم معاذ".
المال يعوّض، البيت يُعاد بناؤه، والعمل يمكن أن يُستأنف من جديد، لكن خليل لن يعود.. ومع ذلك، سنبقى صامدين، كما أراد هو، كما علّمنا.. سنعيد بناء حياتنا رغم الألم، ولن نعرف الذل أو الانكسار.
أما النزوح فكان بمثابة حرب جديدة تضاف إلى حرب الإبادة، كان معاناة لا تنتهي، حلقات متواصلة من الألم والقهر. خلال الحرب، نزحنا أكثر من 15 مرة، وكانت رحلاتنا تتم في ساعات الليل المتأخرة أو في الصباح الباكر، نزحنا في البرد القارس وفي أشد فترات الحر، تارة إلى مدارس، وأخرى إلى بيوت الأقارب، أو إلى مناطق شمال غزة حيث منزل والد خليل. ومع اشتداد الوضع في غزة، كنا نهرع للنزوح إلى الشمال، وفي حال تدهور الأوضاع في الشمال، كان علينا العودة إلى مدينة غزة.
دينا فروانة: الصحافية التي أسكتتها الحرب

منزلنا في غزة تركناه منذ السابع من أكتوبر، وعندما عدنا إليه في فبراير 2024، وجدناه قد تحول إلى كومة من الحجارة بعد أن دمره صاروخ صهيوني غادر. معاناة النزوح كانت قاسية للغاية، خاصة مع طفليّ الصغيرين، حيث كان أحدهما في بداية الحرب في الثالثة من عمره والآخر في الرابعة والنصف. الوضع كان أصعب بكثير في ظل الحصار وتجويع السكان، فكان من الصعب توفير الطعام للأطفال، إذ كان الغذاء شحيحًا في شمال غزة والمياه الصالحة للشرب كانت معدومة.
أما أماكن النزوح فكانت تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية، فغرفنا كانت مكتظة بالنازحين، وانتشرت الأمراض بين الأطفال، ولم يكن هناك من سبيل لتجنبها. رغم كل حرصي على حماية أطفالي، أصيبوا ببعض هذه الأمراض. أما الأيام التي مرت دون أن نجد ما نأكله، فقد كانت من أصعب اللحظات، خاصة في فترة انقطاع الطحين عن شمال القطاع. لا يمكنني أن أنسى تلك الليالي التي كنا نبيت فيها جوعى، أطفالنا لا يجدون ما يسدون به جوعهم. وصل بنا الحال إلى طحن أعلاف الحيوانات لكي نتمكن من إطعام أطفالنا والكبار
أثرت الحرب بشكلٍ كبير على استمراري في التغطية الصحفية، وكذلك في إكمال دراستي للماجستير في دراسات الشرق الأوسط، إذ كانت العقبات غير المتوقعة على رأس كل خطوة. لم يتبقَّ لي الكثير لإنجاز رسالتي ومناقشتها، لكن انقطاع شبكة الاتصالات والإنترنت لفترات طويلة، ثم عودتها بجودة سيئة، كانت عوائق ضخمة في مواصلة أي عمل أو دراسة.
بالإضافة إلى تعطل جهاز الحاسوب الخاص بي بسبب القصف، وصعوبة إصلاحه أو الحصول على جهاز بديل، فقد كانت هذه الظروف سببًا كبيرًا في تعطيل قدرتي على التغطية الصحفية. كنا في شمال غزة بالكاد نعرف ما يجري حولنا. كما أن حالة الرعب والخوف الشديد التي كانت تلاحقنا من كل اتجاه جعلت من المستحيل الحفاظ على تركيز مهني أو تواصل فعال.
ولكن في ظل تلك التحديات، كان تركيزي الأساسي على حماية أطفالي والاعتناء بهم. فقد حرصت على تعليمهم، رغم النزوح المتكرر، وقاموا بإتمام مرحلة البستان، وبتوفيق الله، مع إحدى معلمات رياض الأطفال التي كانت قد نزحت معنا. وقد أظهروا تفوقًا واضحًا رغم كل ما مررنا به، وها هم الآن يكملون دراستهم بنجاح.
على الصعيد العاطفي، كانت تجربتنا كعائلة شبيهة بما مر به آلاف الأسر التي فقدت استقرارها النفسي والاجتماعي. فقد شتتت الحرب شملنا وأفقدتنا لحظات التجمع الدائم، حيث اضطررنا لتقسيم أنفسنا إلى مجموعات صغيرة بحسب الأماكن التي نزحنا إليها، وكل ذلك وسط ألمٍ مستمر وحرمان من أبسط مقومات الحياة.
33 يومًا حتى جاء الخبر
آخر اتصال بيني وبين خليل كان قبل 15 يومًا من استشهاده. ومنذ ذلك الحين فقدنا الاتصال به تمامًا، وعشتُ خلال تلك الفترة التي امتدت لـ 33 يومًا في حالة من القلق والترقب المستمر. لم نكن نعرف مصيره، هل هو معتقل؟ أو جريح؟ أو شهيد؟ كنتُ أطلب من كل من أعرفهم أن يدعوا له بالسلامة، على أمل أن تكون عودته قريبة. كنتُ بحاجة لهذا الدعاء، ليس فقط كوسيلة للراحة، بل لأني كنتُ أتمسك ببصيص من الأمل، رغم كل شيء. في أعماقي، كنت أخشى أن تكون الحقيقة أقسى مما أستطيع تحمله، لكن الأمل كان يسيطر على قلبي.
في 30/12/2024، وبعد مرور 33 يومًا من الانتظار، استطاع مجموعة من الشباب الخروج من جباليا في إحدى الليالي الماطرة، وجاؤوا ليخبرونا بنبأ استشهاد خليل بتاريخ 14/12/2024. أخبروني أنه استُهدِف هو ومجموعة من الشباب في أحد شوارع مشروع بيت لاهيا بصاروخ واحد على الأقل من طائرة استطلاع.
في اليوم الذي أتى فيه الشباب بالخبر، كنتُ قد بدأت أتوقع أن يكون خليل ضمنهم، لأن هؤلاء الشباب كانوا يخرجون في أيام المنخفضات الجوية، في ظل غياب الطائرات. وفي تلك اللحظات، كنت قد اشتريت له كل ما يحتاجه من ملابس شتوية وجهزت له حاجياته على أمل أن يعود، لكنه لم يعد.
أنا أؤمن تمامًا أن ما أصابني لم يكن ليخطأني، وما أخطأني لم يكن ليصيبني، وأن الله سبحانه وتعالى لا يُعطي أصعب معاركه إلا لأقوى جنوده. الحمد لله على ما ابتلانا به، فهو يرفعنا عنده ويختبرنا ليزيدنا أجرًا إن صبرنا. هذه قناعاتي الراسخة، وأيماني بالله وبالقدر، خيره وشره.
الشهادة في سبيل الله هي أسمى أمانينا، وأي سعادة أكبر من أن يُقبل المؤمن على الله غير مدبر؟ لقد فقدتُ الكثير من الأشياء، من البيت، إلى مصدر الرزق، إلى زوجي الحبيب، لكنني أؤمن أن كل ما فقدته هو أجور عند الله، إن صبرنا واحتسبنا. وهذا الإيمان هو ما يُبقيني صامدة، صابرة، ومحتسبة.
أستمد قوتي من الله عز وجل أولًا، فهو نعم المولى ونعم النصير. ثم من زوجي خليل، الحاضر الغائب، فهو ملهمي الأول في القوة والثبات. وأخيرًا، من أبنائي، الذين هم خيرُ سندٍ، خيرُ الصحبة، وخيرُ المعين. بهم أتعافى، ومعهم أواصل الطريق كلما أصابتني الحياة.
أول رمضان بلا خليل: فراغٌ لا يُملأ
رمضان هذا العام حزين جدًا، ليس عليّ فقط، بل على آلاف الأسر التي فقدت أبناءها، وترك رحيلهم فراغًا لا يُملأ على موائد الإفطار. بالنسبة لي، هذا الشهر مختلف تمامًا. لم أشتري فانوس رمضان لأطفالي هذا العام -بالاتفاق معهم- ولم أعلق زينة رمضان وأضوائه المُبهجة، لأننا جميعًا نشعر أن فرحتنا بقدوم الشهر الكريم منقوصة.
رمضان هذا العام حزين جدًا، على آلاف الأسر التي فقدت أبناءها، وترك رحيلهم فراغًا لا يُملأ على موائد الإفطار...
حياتنا بعد خليل أصبحت فارغة، فقد كان كل شيء معه أجمل. حتى اللحظات البسيطة، كانت مليئة بالأمل والحياة بفضل وجوده. كان شريكًا لي في الدعاء، في الخبز، وفي الأمل. هو الذي كان يملأ البيت حيوية، واليوم نحن نتجرع صمتًا يعم المكان، ونتلمس غيابه في كل زاوية. لكن رغم كل ذلك، نعلم أن رمضان لا يزال يحمل لنا بركة الصبر والإيمان، وإن كانت تلك الأيام الآن أكثر قسوة من أي وقت مضى.
أقول لكل زوجة فقدت زوجها: أكملي المسير من بعده، استعيني بالله واحتسبي وجعك. هذا قدر الله، ولا مفر منه. استثمري في أبنائك، علميهم كتاب الله والعلم النافع، فهم تجارتك الرابحة في الدنيا والآخرة. ركزي على إسعادهم وصلاحهم، فهم نبراسك وقوتك. لا تنسي في زحمة الحياة نفسك، لأن لنفسك عليك حقًا. اهتمي بها من أجل قلبك، ومن أجل مستقبل أبنائك.
وتذكري قول الرسول ﷺ: "أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلا أنه تأتي امرأة تبادرني، فأقول لها: ما لكِ؟ من أنتِ؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي." فهي في الجنة، فكيف إذا كنتِ أم الأيتام، التي تربيهم وتعلمهم وتضحي من أجلهم؟ الجنة تنتظركِ، وقد أصبح لكِ فيها مقعدٌ لا يُعادله أي عوض.
أنتِ في معركة من نوع آخر، معركة لبناء الأجيال رغم الحروب والدمار. المرأة الفلسطينية هي رمز الصبر، وقلب المقاومة الذي لا يتوقف عن النبض رغم كل ما تواجهه. هي التي تزرع الأمل في أرواح أبنائها، وتُغذّيهم بالقوة والاحتساب، رغم الجراح التي لا تندمل، رغم الألم الذي لا ينقضي. في غزة، تعلمت المرأة أن الصبر ليس مجرد انتظار، بل هو فعلٌ مستمر وتحدٍ يومي، هي تسير في الحياة رغم الحطام، ولا تعرف الاستسلام. هي من يعلم العالم أن معركة الصمود تبدأ من داخلها، وأن دماء الشهداء هي بذور لزرع الأمل والنصر. غزة، هي رمز للأمل الأبدي، أملٌ لن ينكسر طالما أن هناك امرأة فلسطينية تمد يدها لبناء المستقبل، وتقف ثابتة أمام كل الرياح العاتية.