بنفسج

أين ذهب صوتك؟

الخميس 03 ابريل

يُولد الإنسان بالصراخ، يبكي احتجاجًا على خروجه من رحم الأمان إلى عالمٍ مليء بالضجيج والصراعات، لكن ما يلبث أن يكبر حتى يصير الصمتُ رفيقًا له. يكبر ويعتاد أن يرى المظلوم فلا يتكلم، أن يسمع استغاثة فلا يستجيب، أن يرى وطنه يُنهش قطعةً قطعة ولا يحرك ساكنًا. فمتى أصبح الصمت فضيلة؟ ومتى صار السكوت عن الحق حكمة؟

قبل أن تسأل عن حال الأمة، اسأل عن صوتك أنت، أين غاب؟ لماذا تحوّل إلى همسٍ باهت لا يكاد يسمعه أحد؟ متى صرت مجرد متفرجٍ في هذا المشهد الكبير، كأنك لا تنتمي إليه؟!

يقول الحسن البصري: “ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل”، والإيمان ليس أن ترى الظلم وتسكت، وليس أن تعيش في وطنٍ يُباع وأنت تكتفي بالتأوه في داخلك، وليس أن ترى الجهل ينتشر وتقول: ليس من شأني؟

إذا كنت تعتقد أن الصمت أمان، فتذكر أن الأنبياء لم يبعثوا ليصمتوا، وأن الصحابة لم يكونوا مجرد شهودٍ على الأحداث، بل كانوا صناعها، وأن التاريخ لم يذكر إلا أولئك الذين قالوا “لا” حين كان الجميع يصفّق لـ”نعم”!

الصمت في هذه اللحظة ليس حيادًا، بل انحيازٌ للباطل، وتخاذلٌ عن الحق، وجريمةٌ لا تقل عن جريمة الفاعل نفسه. أن يكون لك أثرٌ لا يعني أن تخرج إلى الناس صارخًا، ولا أن ترفع الشعارات في كل محفل، بل يعني أن تؤمن بأنك مسؤول، مسؤولٌ عن الكلمة التي تقولها، عن الموقف الذي تتخذه، عن الخطوة التي تخطوها في هذا العالم.

إن الله تعالى قال في كتابه الكريم: “لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ يَعْتَدُونَ، كَانُوا۟ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍۢ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا۟ يَفْعَلُونَ” [المائدة: 78-79]، فهل تدري لماذا استحقوا اللعنة؟ ليس لأنهم فعلوا المنكر فقط، بل لأنهم سكتوا عنه!

الصمت في هذه اللحظة ليس حيادًا، بل انحيازٌ للباطل، وتخاذلٌ عن الحق، وجريمةٌ لا تقل عن جريمة الفاعل نفسه. أن يكون لك أثرٌ لا يعني أن تخرج إلى الناس صارخًا، ولا أن ترفع الشعارات في كل محفل، بل يعني أن تؤمن بأنك مسؤول، مسؤولٌ عن الكلمة التي تقولها، عن الموقف الذي تتخذه، عن الخطوة التي تخطوها في هذا العالم.

قد لا تكون قائدًا ولا خطيبًا ولا صاحب منصب، لكنك بالتأكيد إنسان، والإنسان في لحظة الحق لا يحتاج إلى لقبٍ ليكون فاعلًا. يقول جلال الدين الرومي: “إذا لم تكن لك بصمةٌ في هذا العالم، فأنت زائدٌ عليه”. فهل أنت زائدٌ على الحياة؟ أم أنك ستترك أثرًا يُشهد لك يومًا؟


اقرأ أيضًا: مين عايش؟ حوارات تحت الأنقاض يرويها محمود نطط


هناك لحظاتٌ لا يمكنك فيها أن تكون محايدًا، لأن الحياد في جوهره خذلان. حين ترى طفلًا يُقتل، وامرأةً تُهان، وأرضًا تُحتل، ثم تقول: “أنا لا أتدخل في السياسة”، فأنت لست حياديًا، أنت خائنٌ لصوتك! حين ترى الفقر ينهش أحشاء الناس، والظلم يفتك بهم، ثم تقول: “كلٌّ مسؤولٌ عن نفسه”، فأنت جزءٌ من المشكلة، لأنك لم تكن جزءًا من الحل.

قال النبي ﷺ: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، فهل صار “أضعف الإيمان” هو أقصى ما يمكننا الوصول إليه؟! توقف عن انتظار التغيير.. كن انت صانعه :إن التغيير لا يأتي وحده، ولا ينتظر المتخاذلين، ولا يكافأ الصامتون. التغيير لا يصنعه الذين يجلسون على الأرائك يتحدثون عن سوء الأوضاع، بل يصنعه أولئك الذين ينهضون لفعل شيء، مهما كان صغيرًا.

يقول الشيخ محمد الغزالي: “المهم أن تكون مؤمنًا بفكرة، أما أن تبقى بلا موقف، فهذا هو الموت بعينه". إياك أن تكون حيًّا على الورق فقط، وأنت ميتٌ في المواقف، هامدٌ في اللحظات التي تحتاج منك أن تتحرك.

إن كنت تظن أن صوتك غير مهم، فتذكر أن موجةً صغيرة قد تحدث فرقًا في البحر، وأن شرارةً واحدة قد تشعل نارًا عظيمة، وأن كلمةً واحدة قد توقظ ضميرًا غافلًا. لا تستهِن بقدرتك على التغيير، ولا تقلل من شأن صوتك، فالصوت الذي يخرج من القلب يصل، حتى لو كان همسًا.

اليوم لديك فرصةٌ لأن تكون صاحب موقف، لأن تصنع أثرًا، لأن تترك بصمةً تُذكَر لك يومًا ما. لا تدفن صوتك في الخوف، لا تُسلمه للصمت، لا تجعله مجرد صدى في زحمة الكلام الفارغ.


اقرأ أيضًا: انتبه: لنداء الإنسان الذي تحييه فيك غزة!


إذا رأيت الحق يُذبح ولم تتحرك، فأنت شريك في ذبحه. إذا رأيت أرضك تسلب ولم تغضب، فأنت تُفرِّط فيها بيدك. إذا رأيت الجهل يملأ العقول ولم تُنكره، فأنت تُشارك في الجريمة. إن لم يكن لك موقف اليوم، فلا تتفاجأ غدًا حين لا تجد لك مكانًا في تاريخ الذين صنعوا الفرق.

يقولون إن الإنسان لا يموت حين يتوقف قلبه، بل حين يصمت حينما يجب أن يتكلم، فكم من الناس ماتوا وهم أحياء لأنهم لم يجرؤوا على قول كلمة حق؟ وكم من أمواتٍ ما زالوا يعيشون بيننا لأن كلماتهم باقية؟! قُل كلمتكَ ومُتْ واقفًا… فالمواقفُ خالدةٌ، والموتُ واحد!