تنظر في وجوه من حولها تسألهم "فايق بخير".. انسحب الجميع، ليبقى شاب كان يعمل مع زوجها في جهاز الشرطة، تكرر الأسئلة عليه ويصمت، تتعمن في وجهه الذي سُحبت منه الدماء فأضحى بلونه الأصفر، وتصر بأسئلتها فلا يجيب، جالت ببصرها في المدرسة التي جاءتها للتو عن تلفاز لتشاهد الأخبار علها تعرف ما الذي جرى ليلة أمس، فوجدت وكان الخبر "اغتيال مدير العمليات في الشرطة الفلسطينية فايق المبحوح".
كان على الشاشة بطلته التي خطفت أنفاسها منذ النظرة الأولى عام 2007، انحبست أنفاسها وشعرت الأرض تميد تحت قدميها، تلاشت الأصوات من حولها وكان صوته في اللقاء الأخير حاضرًا وحده: "سامحيني غلبتك معي"، ووجهه وهو يضحك كالأطفال عندما نجح في تأمين دخول الطحين لشمال غزة في عز المجاعة، ليطعم ربع مليون غزاوي.
يستضيف بنفسج هبة زين الدين زوجة فايق المبحوح "أبو العز" مدير العمليات في الشرطة الفلسطينية، تروي عن الرجل الذي رفض أن يسلم نفسه لجيش الاحتلال أثناء حصاره في مشفى الشفاء، فأشهر سلاحه الشخصي، وقاتل حتى آخر رصاصة، عن الأب والزوج الحنون، الذي رفض التخلي عن غزة في الحرب عندما قالت له زوجته "هيا نسافر"، فرد: "بدك أختم مسيرتي النضالية هيك! رح أضل فيها حتى النفس الأخير".
"أبو العز".. الشهيد المشتبك
في ليلة 18 آذار/ مارس 2024، لم يغمض جفن لـ هبة على الرغم من هدوء الليل على غير العادة، نام أولادها مبكرًا وبقيت هي وحدها، وفجأة قامت القيامة في تمام الثانية بعد منتصف الليل. فزعوا جميعًا، ركضت هبة نحو النافذة لتشاهد الحزام الناري أمام البرج السكني التي تقطن به، أطلقت الكواد كابتر الرصاص نحوها بشكل مباشر، وألقت القنابل داخل الشقة.
وقعت أجزاء من الجدار على أولادها وهم نيام فسحبتهم من تحته بأعجوبة، سمعت صوت إطلاق نار من نوع آخر وعلمت أنه هناك اشتباكًا، لكن بحس زوجة الرجل الشرطي، عرفت أنه مع شخص واحد فقط، لم يخطر في بالها قط أن يكون المشتبك هو زوجها، صارت تناجي الله لأجله، تفكر: لو حصل لهم شيء كيف سيصمد فايق دونهم، إلا أن قطع تفكيرها صوت طرقات على الباب وتجد رجلًا مجردًا من ملابسه يخبرها بأن تنزل للطابق السفلي مع النساء، وقال لابنها اخلع ملابسك وانزل إلى الشارع عند الرجال.
ارتعشت هبة وهي تنظر لابنها عز الدين البالغ من العمر 16 عامًا، وقالت له لا تخلع ملابسك امشي معي، نزلوا سويًا عند النساء وأمامهن الرجال مجردين من ملابسهم، تقول لبنفسج: "زينة رجال غزة وأصحاب مراكز عليا كانوا قدامنا بمنظر مهين للكرامة.. انقهرت كتير.. وخفت على فايق أكتر".
ارتعشت هبة وهي تنظر لابنها عز الدين البالغ من العمر 16 عامًا، وقالت له لا تخلع ملابسك امشي معي، نزلوا سويًا عند النساء وأمامهن الرجال مجردين من ملابسهم، تقول لبنفسج: "زينة رجال غزة وأصحاب مراكز عليا كانوا قدامنا بمنظر مهين للكرامة.. انقهرت كتير.. وخفت على فايق أكتر".
نجحت هبة في الخروج مع ابنها للخارج دون أن يعتقلوه، لا تعلم كيف نجا، الأمر كان معجزة، تضيف لبنفسج: "كانت الدبابات كثيرة جدًا أمامنا بالشارع، وأمام البرج السكني الخاص بنا حفرة كبيرة، حتى نوصل للشارع الرئيسي يجب القفز بالحفرة ومن ثم الخروج منها، كنا نمسك بجنزير الدبابة حتى نستطع الخروج منها، فخفت على عز الدين لكنه نجا، لا أعرف كيف لم ينتبهوا له".
ظنت هبة بعدها أنها وصلت إلى بر الأمان بوصولها لشارع الصناعة في مدينة غزة، وإذ بصاروخ استطلاع يستهدف الشارع أمامهم، كانت خطوة واحدة تفصلهم عن الموت الذي نجوا منه قبل ساعة، لكنها أصرت أن لا تتوجه نجو الجنوب دون زوجها فايق قائلة: "بتركش فايق.. بدي أضل حواليه".
"انجنيت لحظة الخبر"
خلال نزوحها وجدها شباب يعملون مع زوجها في جهاز الشرطة الفلسطينية، ليعطوها غرفة في مركز إيواء تبقى بها مع صغارها، تسألهم عن فايق فلا يجيبون، حتى أتتها الصاعقة، عبر شاشة الجزيرة "اغتيال مدير العمليات في الشرطة الفلسطينية فايق المبحوح" صرخت حتى بح صوتها، بكت بكاء لم تبك مثله من قبل، وهي تردد"فايق ما بموت.. ما بسيبنا". "كنت رح أنجن.. عارفة شو انجنيت بمعناها أنا انجنيت". تقول هبة وهي تمسح دموعها التي تساقطت.
عاشت هبة 15 يومًا لم تكن تعي معنى لليل ولا صباح، تعد الليالي فحسب لأجل اللقاء بفايق شهيدًا، يتراءى لها وجهه كل ليلة، حتى انسحب الجيش الإسرائيلي من مشفى الشفاء لتركض نحو "الكونتير الذي كان يبقى به زوجها، تبحث عنه، فلم تجده، تسأل "أين جثمانه؟ فأخبرها أن الجيش قد اختطف جثته، وسقطت أرضًا تمسك قلبها الذي أعلن ثورته من حزنه.
دخلت هبة في نوبة بكاء شديدة وهي تروي عن تلقيها خبر استشهاد رفيق الدرب، تستذكر حين كانت تطبخ له الطعام ويجتمع حول المائدة أكثر من 20 شخصًا، ليبارك الله في الطعام، قبل استشهاده بليلة طبخت له الأرز الذي يحبه بعد أن أهداهم أحد المعارف 3 كيلو أرز، نظرت هبة إلى الكيس بفرحة لم تستطع كتمها، وقالت: "فايق بحب الرز بكرا بطبخه وبجيبه نفطر فيه كلنا سوا".
اقرأ أيضًا: دعاء أبو شعبان: المجزرة التي لا تموت وهذه مشاهدها الحية
تقول لبنفسج: "طبخت الأرز وذهبت إلى مشفى الشفاء الذي يبعد عن شقتنا شارع واحد فقط، ونجتمع جميعًا على صينية الأرز، وكنا سعداء لنجاح فايق في تأمين إدخال المساعدات وتوزيع الطحين على كل من في شمال غزة، لكن فايق لم يأكل سوى ملعقتين وقال "هاد أخر أكلة الي".. فقلت له "إن شاء الله بنجوعش ربنا ما بسيبنا.. بس تخلص الحرب بترجع العشرين كيلو اللي ضعفتهم يا أبو العز"، لم يأت على بالي أنه يقصد الشهادة أبدًا".
تكمل: "أنهينا الطعام وأعد الشباب الشاي لكن لم يكن هناك سكر إلا بضع معالق صغيرة، فشربناه مر، فقال مرة أخرى هذا كوب الشاي الأخير، كنت سأله ما بك، لكني صمتت لا اعرف لماذا، وفجأة طلب منا المغادرة للبيت".
لم يقبل ابنه عز الدين المغادرة وطلب من والده المبيت معه، فرفض فايق رفضًا تامًا، لكنه أصر على الطلب: "أمانة يا بابا خليني انام معك بس هالليلة". لكن فايق قال له: "لأ.. أنت سند أمك وخواتك.. لو صارلي ما صار.. هتشيل الحمل مع إمك روح وضلك حوالين إمك.. حبيبي يا بابا". ونظر لهبة نظرة لم تفهمها، وغادرت العائلة، ثم لحقهم فايق في الشارع ليعانق هبة مرة أخرى: "سامحيني..غلبتك معي". قالها بنبرة أبكتها، فدعت الله أن يحفظه ويديمه لهم.
غادرته وقلبها منقبض تتذكر نظرته لها ولأولاده، فهمت لاحقًا أنها كانت نظرات الوداع، تقول: "حتى اللحظة لم أستوعب أن فايق لم يعد موجودًا، أتمنى لو أن ما حصل ما هو إلا حلم عابر، سأستيقظ منه لأجد حياتنا عادت، وأكبر إزعاج لي إرهاق فايق لنفسه في العمل، لأجده يوصل ابنتنا جوري للروضة، يشجعني على العمل ويحتفي بكل نجاح لي".
فقد الأم
لم يكن فقدان الزوج وحده ما أثقل قلب هبة في الحرب، بل كان فقدان والدتها الجرح الأعمق. فهي التي رفضت مغادرة بيتها في شمال غزة، واستشهدت في البيت وحدها، وتعلم هبة في اليوم التالي خبر استشهادها، لتدفن دون وداع.
لوالدتها قصة استثنائية غريبة، فقد كانت شابة يهودية اسمها "إستر" التقت بوالد هبة أثناء عمله في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فأحبته، وقررا معًا الزواج، لتعارضها العائلة وتتبرأ منها. غيرت والدة هبة اسمها ل "شهيرة" وعرفها الغزيون بقصتها التي كانت تثير استغرابهم فيقولون: "الحب شو بعمل"، تطبعت بطباع المجتمع حتى أضحت جزءا منه، تعلمت اللغة العربية، وحفظت سور من القرآن الكريم، وعاشت حتى النهاية محبة مخلصة لغزة، ليكون لها ما تمنت "الشهادة على أرض غزة".
عائلة أبو العز
تعود هبة بالذاكرة لخمسة عشر عامًا إلى الوراء، حين ضحكت الحياة لها ورزقتها بفايق، تضيف: "كان أسيرًا محررًا قضى 15 عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فخفت من فكرة الارتباط بأسير يكبرني ب15 عامًا، لكن حين التقيته تلاشي خوفي، وقلت نعم دون تفكير، لأعيش معه أجمل سنين العمر، كان رجلًا مثاليًا يساعدني في المنزل، حين يشتهي فنجان قهوة يفعلها بنفسه، ويأتيني بها لنشربها سويًا".
رزق الله هبة وفايق بأربع أطفال بنتين وولدين، أصغرهم جوري وأكبرهم عز الدين، فكانا نور حياته للرجل الذي قضى سنوات في الأسر، وكان يحلم أن يصبح أبًا، فاستجاب الله له، تكمل هبة: "كان فايق أبًا رائعًا، صديقًا لأولاده، كان عز الدين يرافقه في العمل يوميًا خلال العطلة الصيفية، يكون كظله في كل الأماكن، كان معجبًا بطريقة عمل والده، أما جوري فكانت متعلقة به جدًا كونها آخر العنقود، ويارا الابنة الحنون على والدها يراها شبيهتي، ومحمود أوسطهم الذي كان حبيب والده الذي اسماه على اسم عمه الشهيد".
اقرأ أيضًا: إسراء العرعير: حين يتجاوز الخبر عدسة الصحفي لذاته وذويه
تردف: "فراق والدهم كان قاسيًا، يخبرونني دائمًا، ماذا لو بابا معنا الآن، حين نطهو الطعام الذي يحب يقولون بابا كان يحبه، يتجولون في صوره كل ليلة سويًا ويبكون اشتياقًا لعناق أخير، أولادي حتى حرموا من قبر لوالدهم، من جنازة تليق بمسيرته النضالية، لكنهم فخورين به لأقصى حد فهو الشهيد المشتبك الذي رفض الخنوع حتى الرصاصة الأخيرة".
تختم هبة حديثها عن أبو العز: "ما بنسى وجه فايق يوم ما نجح بتأمين المساعدات كان زي الأطفال مبسوط وبقلي أنا نجحت، فقرر يشتري أواعي تيجي على قده بعد ما فقد من وزنه كتير، وحلق شعره ودقنه وكان كأنو عريس، ما كنت بعرف أنه بتجهز للشهادة".
رحل أبو العز ليكتب التاريخ أنه الرجل الذي نجح في إطعام ربع مليون غزواي، ليغتاله الاحتلال بعد نجاحه المدوي بيومين، حاصروه وطلبوا منه رفع يديه وتسليم نفسه، لكنه أراد أن يكتب خاتمته بنفسه، أشهر سلاحه واشتبك مع الجنود الإسرائيليين، ليقتلوه مقبلًا غير مدبر، لتكون خاتمته مثلما ما أراد مقاتلًا حتى الرمق الأخير.