بنفسج

يوم أن غرقت ماسة "جوهرة أبيها" بالدماء

الأربعاء 21 مايو

من قصص شهداء غزة ليسوا أرقاما
من قصص شهداء غزة ليسوا أرقاما

بين الكتل الإسمنتية المتناثرة كانت مرتمية لا تقوى على الحركة، مدفونة بين الغبار والبارود، يعلو وجهها الشقوق الممتلئة بالدم، ورائحة الدماء المختلطة بالركام تتسرب إلى جوفها، فتثير رغبتها بالتقيؤ، حاولت التحرك لكن عبث، فأخذت تتجول بعينها في ضباب العتمة، صرخت بصوت مبحوح يكاد يختنق: "بناتي وين بناتي". كان الصوت خافتًا، لكن شق سكون الصباح واخترق الحجارة ليصل للمنقذين ليتم انتشالها في حالة ما بين اليقظة والغيبوبة.

السيدة وسام العصار تروي لنا ما حدث صبيحة 16 أيلول/ سبتمبر 2024، بينما كانت تُمني نفسها بانتهاء المقتلة، وتخطط مع زوجها لمستقبل آمن مع طفلتيها لانا وماسة، لكن صاروخًا واحدًا كان كفيلًا بأن يحول الأحلام إلى مقبرة، تخبرنا أم الشهيدة عن فقد ابنتها ماسة القصاص والاستهداف الذي خطف من البيت عدة أفراد شقيق زوجها وزوجته وأطفالهما الثلاثة، وشقيق زوجها الثاني الذي دُفنت ماسة بين أحضانه، وأختهم إسراء.

يوم أن أظلمت دنياي

من قصص شهداء غزة ليسوا أرقاما

كانت الشمس قد أعلنت شروقها للتو، وبينما وسام وزوجها وطفلتيهما نائمين سقط الصاروخ ليخطف 8 أرواح دفعة واحدة، 4 منهم أطفال لم يتخطوا الثامنة بعد. 
تقول وسام لبنفسج: "لم أدرك أنني تحت الركام إلا بعد ثوان، ولم يهمني سوى أن أرى بناتي لانا وماسة، وصلت للمشفى وإذ بابنتي لانا أمامي مصابة بكسر في القدم، وزوجي بجانبها، بقيت أسأل عن ماسة فأخبروني أن بخير ونائمة، لكن حدسي كان يقول لي إنها ليست بخير".

بعد أكثر من ساعة وإلحاح من وسام المصابة بكسور في ظهرها، ظهر والدها من بعيد أمامها يحمل حفيدته ماسة، وبلوزتها السوداء بدوائرها البيضاء أضحت بلون الدم، مغطاة بكفن أبيض طالته بقع كثيفة من دمها النازف.

كان وداعًا أبكي كل من رآه، آخر العنقود التي لم تبلغ عامها الرابع بعد، رحلت وتركت أباها وأمها وشقيقتها يعانون مر الفراق، تضيف وسام: "قبل استشهاد ماسة بيوم طلبت مني أن أصنع لها المبروشة، ففعلت، كانت تستيقظ وتبكي كل ليلة عدة مرات، لكنها ليلة استشهادها فتحت عينيها أكثر من مرة لتعانقني أنا ووالدها ثم تنام، حتى أنني استغربت واحتضنتها بقوة، وعلى الرغم من التصاقنا ببعضنا في تلك الليلة رحلت هي وبقيت أنا".

أحلام لم تكتمل

من قصص شهداء غزة ليسوا أرقاما

كانت ماسة تسأل والدتها دائمًا "ماما متى بدي أروح الروضة"، فتأخذ حقيبة شقيقتها الأكبر وتلعب دور الطالبة الصغيرة، تقول: "كان نفسي كتير تكبر وتروح على الروضة وأشوفها ست البنات".

أما والدها الرجل الذي كان يعز بناته بحق، كانت الدنيا في كفة وماسة في الكفة الثانية، حتى أن وسام أخبرته أكثر من مرة "لا تفرق بين بناتنا.. وتحب واحدة أكثر من الأخرى". لكن القلب ليس عليه سلطان، فيرد: "آخر العنقود سكر معقود". 

تبكي وسام بمرارة وهي تستذكر الذكريات، وهي ترى زوجها يبكي يوم الفراق لأول مرة منذ زواجهما، فلم يكن فقده لابنته فحسب، بل لأشقائه الاثنين وشقيقته، وأولاد شقيقه رشاد. ليقول لها وهو لا يقوى للوقوف على قدميه: "انكسر ظهري".


اقرأ أيضًا: قتل المحتل طفلتي.. سلب طوق الياسمين


وعن طفلتها لانا تخبرنا وسام أنها لم تتقبل غياب شقيقتها، فكانت تبكي عند كل فيديو تسمع به صوت ماسة، حتى أنها أضحت تضع يديها على أذنها كلما سمعت صوتها، لكنها بعد فترة صارت كلما اشتاقت تمسك الهاتف وتعيد وتكرر كل صورة وكل ذكرى.

تقول وسام لبنفسج: "مقهورة على ابنتي التي تغيرت سلوكياتها منذ استشهاد ماسة وأعمامها وأولاد عمها رشاد، تخبرني بأمنيتها بالموت واللحاق بهم، وتصيبها نوبات هلع كلما حدث قصف، حتى أنها لا تذهب إلى مكان إلا وأنا معها.

رحلت الصغيرة ماسة ولم يتبق منها سوى بضع ملابس ودبدوب صغير، تاركة غصة الألم في قلوب العائلة، لكن ما يعزيهم أنها دُفنت بين أحضان حبيبها عمها محمد التي كان روحها به.