بنفسج

هدأ نفس الأطفال التسعة.. ولتُتنكس كل الحروف

الإثنين 26 مايو

الطبيبة آلاء النجار استشهد لها 9 أطفال
الطبيبة آلاء النجار استشهد لها 9 أطفال

أتساءل لم الصورة بألف كلمة؟ ألا يكفي بعض الأحيان خبرٌ من سطرٍ واحد لكنه اختزل الكثير من المعاني وليس الكثير من الكلمات؟ لم الدراما وتأثير الأفلام والمسلسلات في حياتنا حتى نستوعب الحدث الواقعي؟ لماذا على التراجيديا فقط استثارة مشاعرنا؟ لماذا عليها أن تخرج الحزن والتعاطف منا، وكلمة واحدةً أحيانًا عن ألف كلمة؟

لماذا كان على كل قناةٍ إخبارية أن تضع صورة للطبيبة آلاء النجار، تحتضن أجساد أطفالها؟ تودعهم؟ أجسادًا؟ رفاتًا؟ أشلاءً؟ جثثًا متفحمة؟ ألم يكفي الخبر وحده؟ تسعة أطفالٍ وصلوا مجمع ناصر الطبي في خان يونس جثثًا متفحمة، ولا يزال اثنان منهم مفقودان.

تبخرت أجسادهم، أو لا زالوا تحت الأنقاض ماذا سيفرق أيضًا لديكم؟ "جثثًا متفحمة" ألا تكفي هذين الكلمتين وتغنيان عن ألف كلمة؟ عن صورة؟ ما الجدوى من نشر صورة أمٍ تودع أطفالها مع تلك الكلمتين أصلاً، ومن بين تلك الصور صورة من الواضح أصلاً أنها مفبركة بالذكاء الاصطناعي..

وهل كان لصور الأمهات المكلومات قبل الطبيبة آلاء أصلاً صدىً داخل قلوبنا، هل فيديوهات الأمهات وهنّ يودعنّ أبناءهنّ، الصابرات المحتسبات منهنّ أو اللواتي كان الحزن أثقل من أن يحملنه له أثرٌ أكبر من خبر يتعلق بشهداء أطفال وصلوا جثثًا متفحمة! "جثثًا متفحمة"، لأطفال أكبرهم 12 عامًا وأصغرهم 6 أشهر، وماذا لو كان الخبر لطفلٍ واحد وصل جثة متفحمة، لطفلين، أو ثلاثة، أو عشرة، كل هذه الأعداد ماذا تعني أمام كلمة "جثة متفحمة"، هل ستتغير مشاعرنا، هل سيتغير موقفنا تجاه الخبر لو كان طفلاً واحدًا فقط وصل جثة متفحمة!

هزنا العدد تسعة كونهم أشقاء من عائلة واحدة ولم يهزنا العدد أن أكثر من 18 ألف طفل سبقوا الأطفال التسعة خلال هذه الحرب المسعورة، وما يزيد عن 1730 منهم لم يصلوا المستشفيات حتى الآن لأنهم بقوا تحت الأنقاض أيضًا أو لم يجدوا جثامينهم، تتبخر أحيانًا بفعل قوة الصواريخ، أو تتطاير أشلاءً هنا وهناك!

أيهمنا معرفة أنها انهارت أو تماسكت حتى نعرف في أي قالب نضع مشاعرنا؟ أيهمنا جدًا أنّ نعلم أنّ أم الشهداء التسعة لم تملك وقتًا للانهيار أو أنّها تلقت الخبر بصبر واحتساب حتى نعلم كيف نتضامن معها وكيف نتعاطف مع الخبر! بعض العبارات التي تصف حالة هذه الأم ما هي إلا استعراض عضلاتٍ لُغوي، أبهذا نظن أننا نسكت صوت العجز داخلنا؟

ولأصحاب اللغة والمتمسكين بأدبها وشعرها في حضرة الموت والفقد، ألم يكفي الخبر أيضًا، لماذا كان لِزامًا وصف حالة الطبيبة آلاء النجار قبيل وقوع الحدث وأثناء تلقيها الخبر، أنها كانت على رأس عملها، لماذا علينا أن نصوغ مشاعرنا وكأننا نبرر أنها مشاعر الأم الطبيبة، لماذا علينا تخيل كل ما قبل الحدث؟ أيهم كثيرًا أنها تعالج أطفالاً جرحى، تهدئ روع أمهاتهم حتى نفهم الخبر المتعلق بـ "الطبيبة الأم"!

أيهمنا معرفة أنها انهارت أو تماسكت حتى نعرف في أي قالب نضع مشاعرنا؟ أيهمنا جدًا أنّ نعلم أنّ أم الشهداء التسعة لم تملك وقتًا للانهيار أو أنّها تلقت الخبر بصبر واحتساب حتى نعلم كيف نتضامن معها وكيف نتعاطف مع الخبر! بعض العبارات التي تصف حالة هذه الأم ما هي إلا استعراض عضلاتٍ لُغوي، أبهذا نظن أننا نسكت صوت العجز داخلنا؟ أو نبرر لأنفسنا أننا واجهنا المأساة بكلماتنا المنمقة؟ كل كلامٍ في حضرة الفقد، وجللِ الحدث مبتذل..

أم طبيبة فقدت أبناءها التسعة في غمضة عين وهي على رأس عملها، وصلوا المستشفى جثثًا متفحمة. انتهى حقًا الخبر.. لكن لا كلمات عزاء هنا، المهم فقط ألا يمر الخبر مرور الكِرام ويُنسى، المهم ألا تموت ذاكرتنا، ولا حتى ضمائرنا ولا إنسانيتنا، وألقوا بالتراجيديا خاصتكم بعيدًا عن خبر واقعي، بعيدًا عن مشاعر أمٍ أنعم الله عليها بالصبر والسكينة، ومع هذا فهي أمام فاجعة لا يمكن أن يحتملها قلبُ أم، ولا يُنسي الصبرُ مرارةَ الأسى..


اقرأ أيضًا: عن أيام لا تشبهنا.. وليالي الحرب الثقيلة


وحتى أسماء أطفالها الجميلة وأعمارهم الصغيرة حفظناها أم لم نحفظها، كفاهم الرحمن بما قال في محكم آياته ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾، لكن علينا بإجابة يوم تجتمع الخصوم، ونحن نُسأل عنهم واحدًا واحدًا، اسمًا اسمًا، لا دفعة واحدة كما فقدتهم أمهم.. وستسألون أيضًا عن مشاعركم التي سردتموها في زي مشاعر الأم المكلومة..

كل مرة أعجز فيها عن التعبير عن شيء عظيم أقول: "لا تكفينا العربية بفصاحتها ولا بسعة مصطلحاتها" لكن اليوم أقول: "لتخرس كل اللغات، فنفَس طفلٍ واحد أبلغ من اللغات مجتمعة.. هدأ نفَس تسعة أطفال اليوم، فلتنكس كل الحروف".وما كل اللغات والتعبيرات أمام قلب أم فقدت أبناءها التسعة دفعةً واحدة!

إن لم نعرف التعبير فالصمت أبلغ يا سادة، وإن كانت الصورة بألف كلمة، فخبرٌ واحدٌ بألف صورة..لا نملك والله يا دكتورة آلاء بعزته وجلالته وبكبريائه وعظمته إلا أن نقول تولاكِ الله برحمته وأخلفكِ خيرًا، لله صبركِ ولله درّكِ، منه المصاب وله التسليم ولكِ الأجر بإذنه، "لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى" زادكِ الله صبرًا وإيمانًا.