في غزة، أطفال كبروا تحت أزيز الطائرات والقذائف والانفجارات التي لا تهدأ، فبدلًا من أن يحفظوا أسماء الفواكه، حفظوا أسماء الطائرات التي تقصفهم، ورأوا كثافة الدخان التي تغطي السماء بدلًا من قوس قزح في صباح مبهج يغمره صوت العصافير، لم يعرفوا البيت بل كبروا في الخيمة، حتى الموسيقى حين سمعوها بعد أشهر من القصف أثارت استغرابهم، هؤلاء جيل جديد تربى في قلب الجحيم فلم يعرفوا وجهًا للاستقرار ولا كيف تكون الحياة الطبيعية.
"بدي أروح باي"
كانت ماريا الخضري تبلغ من العمر وقت اندلاع حرب الإبادة الجماعية عامًا واحدًا فقط، حينما بدأت بتكوين الكلمات كانت تردد: "قصف.. رصاص.. شو هاد!" حوصرت رفقة عائلتها في منزلهم الواقع في حي الرمال في مدينة غزة، فلم يكن متاحًا لها أن تبكي وقت جوعها وتعبر بالقول: "جعانة بدي أكل"، تضع والدتها نهى يدها على فمهما خوفًا من أن يصل صراخها لجنود الاحتلال المتمركزين على مقربة منهم.
لا تعرف ماريا أشياء كثيرة سواء من الطعام، والحدائق والمنتزهات، حين ترى صور والديها قبل الحرب في أماكن جميلة تقول: "واو خدوني". تقول والدتها نهى لبنفسج: "كبرت طفلتي بالحرب ولكنها لا تعرف طعم كل الفواكه، في وقف إطلاق النار المؤقت في يناير المنصرم بدأت أصناف الفواكه بالدخول رفقة اللحوم والدجاج، وحينها بدأت تتعلم ماهية الأصناف وأحبتها حتى تحسنت صحتها ووزنها".
اقرأ أيضًا: أمل أبو ركاب: أم لم تلد لأطفال شهداء
وحين بدأت تطبخ نهى على الغاز بعد دخوله خلال الهدنة إلى غزة، اندهشت ماريا منه فظلت تتفحصه، وتركض لجلب الخشب والكرتون لإشعاله، تعقب والدتها: "عقلها الطفولي لا يستوعب حجم المفارقة بين زمان والآن".
تظل ماريا تردد: "خشب.. حطب.. هباب.. معكرونة، قصف.. تخافيش ماما". فهذا ما كونته حصيلتها اللغوية في عامين من الحرب، وحين رأت ثلاجة في الشارع ظلت تسأل والدتها عن ماهيتها فأخبرتها عن وظائفها فردت: "مفيش أكل نحطه بالثلاجة".
رقص لأول مرة
أما الطفل لؤي سكر يبلغ من العمر ثلاث سنوات ونصف، لم ينعم في غرفته التي كانت بألوان مبهجة، وبسريره الدافيء، نزح إلى جنوب غزة ليعيشوا رفقة العائلة الممتدة في غرفة واحدة أكثر من 10 أفراد في غرفة صغيرة، ينامون فوق بعضهم البعض، ينام على بطانية فظن أن هذه هي الحياة العادية.
تقول والدته لبنفسج: "تنقلنا بين البيوت خلال النزوح، فبقينا لفترة في منزل محروق بالكامل، فاستصلح لؤي ملابس على مقاسه، فكانت مهترئة جدًا، فلم يعلم شكل الملابس الجديدة لأكثر من عام حتى عدنا للشمال".
الآن وبعد عودته إلى الشمال ارتدى الصغير ملابس جديدة، وعندما جرب أول طقم خاص به، سعد جدًا، وأخذ يدور بين العائلة يخبرهم أنه يلبس ملابس جديدة. لم يقتصر الأمر على الملابس فحسب، لا يعرف لؤي كثير من الفواكه، تذكر والدته جيدًا يوم أن اشتروا البطيخ أكله بالقشر، وكذلك الموز، ثم عادت المجاعة مرة أخرى ليختفي الطعام بأنواعه، ليبكي لؤي اشتياقًا للفاكهة التي لم يتذوقها إلا مرات معدودة.
اقرأ أيضًا: سيلين.. معجزة البقاء من تحت الركام
في آخر أشهر بالنزوح بالجنوب، سكن لؤي وعائلته خيمة، فلم يعد يعرف الجدران، يظن أنه من الطبيعي أن يحظى فقط ببطانية للنوم فوقها فقط، وحين سألوه كيف ستستقبل شقيقتك الجديدة أجاب: "هتنام جنبي على البطانية".
تقول والدته: "أحاول تعريفه على مكونات البيت، وحين عدنا لبيت في الشمال، استغرب شكل البلاط، ومنظر البيت الجميل، فقد اعتاد على الخيمة وظنها الحياة، وما زال يعتقد أن بيته في رفح وليس هنا بغزة".
تختم والدته بصوت مبحوح: "أول مرة سمع صوت موسيقى كان من بياع يبيع غزل البنات كان مشغل أغنية هو صفن وسمعها بعدين صار يرقص، هو بس كبر على صوت القصف ومناظر الشهداء، ما بعرف شي، بديت أعلمه وأحكيله عن كل الأشياء".