المطبخ ذلك الرُكن المثير للقلق والتوتر، هكذا يبدو لي وأنا أسترجع مشهد تحضير أمي للطعام في نهار رمضان، لا سيما في الساعة الأخيرة قبل آذان المغرب، وهي تتنقل بسرعة خاطفة بين أمتاره القليلة، تسابق الزمن حتى تجهز كافة الأطباق ولا تنسى أحدها قبل أن يُرفع الأذان، كانت تنجح في بعض الأوقات وتفشل أحيانًا أخرى.
نعم كنت أهاب المطبخ رغم أني لم أكن مسؤولة عنه، ولكن كحال معظم العائلات الشرقية، تربيتُ في أسرة تلقي معظم المسؤوليات على الأم، إلا أن لعائلتي زيادة على الأمر فأمّي تهوى "التعب"، تؤمن أنها الوحيدة القادرة على إنجاز كل الأمور دفعة واحدة دون حاجة لأي منّا، فجميعنا متململون بطيئون في الإنجاز، أما هي المرأة الخارقة، وفعلًا هي كذلك.
تتعاظم إنجازات أمي في شهر رمضان الذي يخير قواها وطاقتها، ويقلّص ساعات نومها وراحتها، إذ تنحصر نشاطاتها في إعداد الطعام والعبادة.
أذكر منذ كنت طفلة سؤالها المغلّف بالهمّ الدائم: مش عارفة شو بدّي أطبخ بكرة؟ فهي في حيرة من أمرها تريد إرضاء عائلة مختلفة الأذواق، بين زوج يفضل الأطباق التقليدية وأبناء يميلون كغيرهم من الشباب إلى الأكلات الغربية.
أذكر منذ كنت طفلة سؤالها المغلّف بالهمّ الدائم: مش عارفة شو بدّي أطبخ بكرة؟ فهي في حيرة من أمرها تريد إرضاء عائلة مختلفة الأذواق، بين زوج يفضل الأطباق التقليدية وأبناء يميلون كغيرهم من الشباب إلى الأكلات الغربية السريعة؛ ولتحقيق ذلك تقضي معظم نهارها بين جنبات المطبخ.
يزداد الأمر صعوبة بتدخل أخوتي الشباب في الطهي، ففي الساعة الأخيرة يتجمهرون حولها، يطالبوها بالإسراع، ويبدأون سيمفونية النقّ الذي لا ينتهي إلا عند تناول اللقمة الأولى.
هذا الأمر وجدته ينسحب عليّ بعد زواجي، أصبحت المسؤولة عن الطهي وقمت بالأمر؛ أما في رمضان فقد هيّأت نفسي للمشقة ولساعات طويلة من الطبخ على عكس ما أحب، فأنا من النوع الذي يفضّل الطهي بشغف وبلا منغّصات.
البيئة واحدة لم يتغير سوى الأشخاص. معظم السيدات يتحدثن عن همّتهن في النهوض باكرًا لتحضير طعام رمضان، ودخول المطبخ منذ ساعات الظهيرة حتى قبيل الأذان. لا أزال أذكر سخرية إحداهن بحديثي عن مبالغتهنّ بالأمر، وأن تحضير الطعام لا يجب أن يستغرق كل هذا الوقت، لتتهمني بالتقصير واللامبالاة بعائلتي حتى انخرطت لا إراديًا في طقوس المشهد المُرهقة.
ثلاثة أعوام خلت وأنا في بلاد الغربة، افتقدت الكثير واكتسبت الأكثر، أشدّ ما لفتني في غربتي مدى سلطة البيئة والعادات المجتمعية التي تعطّل العقل عن مهمّته وتحشر المرء في زاوية تهدر وقته وروحه. أحد أوجه تلك السَطوة الفكرية المغلوطة تمثله أجواء طبخ رمضان وهمّه المُفتعل فهنا تعلّمت أن الأمر هيّن ولا يحتاج إلا لساعتين، ولكن بلا منغّصات أو (نقّ).
أنا محظوظة لأني لم أقع فريسة لزوج من أولئك الذين لا يطيقون الجوع ولا يُحسنون كظمِه.
كل ما يتطلبه الأمر تخطيط بسيط، وتنظيم الوقت، وزوجٌ هانئ. نعم، أنا محظوظة لأني لم أقع فريسة لزوج من أولئك الذين لا يطيقون الجوع ولا يُحسنون كظمِه، هؤلاء لا أدري كيف لأهلهم تحمّل جنونهم وطلقات الشر التي تسبق الآذان كافتعال المشكلات والحديث المحتدّ مع الآخرين دون أي مبرر، وما إن يملؤون بطونهم حتى ينقلب حالهم، فتجدهم يضحكون ويمازحون وكأن شيئًا لم يكن؛ هؤلاء يظنّون أنهم يقدّمون لمن حولهم معروفًا بصيامهم.
على مدار الأعوام المنصرمة، قررت ألا أهبَ وقتي للمطبخ في رمضان، فلديّ عمل ودراسة وطفلين أوْلى به، نجحت في طهي مختلف الأطباق بدءًا من المقبلات والعصائر وليس انتهاءً بالطبق الرئيس. فعلتُ ذلك خلال ساعتين أو ثلاث فقط.
هنا لا أتحدث عن المثالية، ففي بعض الأوقات كانت السفرة تجهز بعد عشر دقائق من انطلاق الآذان لكن ما من أصوات تثقب آذاني وهي تلومني على هذا التأخير وما من نساء يعقدن مقارنات بين تفانيهنّ بقضاء ساعات لأجل الطبخ ودخولي المتأخر لهذه المكعبات الأسمنتية.
في الغربة، أصبح بوسعي إنجاز الكثير من المهام التي تصعب عليّ في الأيام العادية وأكثر من ذلك؛ ففي رمضان أجد لنفسي متسعًا من الوقت، وبات بإمكاني تفحّص وصفات الأكلات المنشورة على صفحات الفايسبوك، ومتابعة التعليقات عليها حتى أضمن طبقًا ناجحًا، لا سيما أنه في رمضان لا مجال للتجارب غير المضمونة. رغم ذلك كله إلا أني لا أخفي الشق السلبي في الأمر، فجلوسنا اليومي نحن الأربعة أمام مائدة الطعام دون الاجتماع بالأهل والمحبّين ينزع بهجة الأجواء ويعكّر صفوها في بعض الأحيان.