هذا المقال هو محاولة قراءة في كتاب المرأة بين الأصول والتقاليد؛ إذ تتعدد الأطر التفسيرية التي تشكل النموذج القيميّ المثالي عند قراءة واقع المرأة، فإما أن تُستمد من مصادر أصولية –ربانية- كما في الحالة الإسلامية، أو من تنظيرات فلسفية وتجارب تاريخية -إنسانية - فريدة كما في الحالة الغريبة. في كلتا الحالتين تكمن أهمية هذه الأطر باعتبارها مرجعًا لتقييم واقع المرأة وتوضيح معالمه، وتحديد مصادر الخلل والمشكلات والعوائق التي تحول دون الارتقاء به بالشكل الذي يمليه النموذج المعياريّ.
يعتمد حسن الترابيّ في كتابه المرأة بين الأصول[1] على الأصول الإسلامية الشرعية كنموذج مثالي لقراءة واقع المرأة والدعوة للنهوض به، لكنه يرى أنّ هذه الأصول في بعض حالتها ضبابية أي ليست نقية؛ فقد اختلطت في مراحل تاريخية معينة بالأنماط العُرفية والتقليدية السائدة للأمم التي انتشر فيها الإسلام، وأُلبست لباسا إسلاميا.
يحاول الترابيّ في هذا الكتاب، أنّ يفض الاشتباك بين الرؤية الأصولية الإسلامية للمرأة وبين وما اختلط بها من رواسب عبر مجرى التاريخ، من خلال فصول الكتاب الأربع التي جاءت على الترتيب: الأول؛ المرأة في تعاليم الدين: يوضح فيه التصور الإسلاميّ للمرأة بالاعتماد على نصوص القرآن الكريم والاستشهاد بواقعها في الحالة الإسلامية الأولى، الثانيّ؛ المرأة في مجتمع المسلمين: وفيه يُعرّج الترابيّ على الأسباب التي أدت إلى تراجع واقع المرأة عن النموذج الإسلاميّ المثاليّ. الثالث: نهضة المرأة الذي يتناول التحديّ الغربيّ الذي يواجه واقع المرأة في المجتمعات العربية، ليصل إلى فصله الأخير: الرجل والمرأة ومثال للحياة، وفيه يوضح رؤيته الخاصة لحياة سوية يتشارك في بنائها كل من الرجل والمرأة.
المرأة في التأصيل الإسلاميّ: توازي وتشارك وتخالط الرجال
بحسب الترابي؛ فإن المرأة في الأصول كائن إنساني قائم بذاته؛ فهي موضع التكليف المباشر دون وساطة من ولي الأمر فيقول: "إن الدخول في دين الله عمل عيني لا تصح فيه الوكالة، ولا يوخذ بالإضافة إلى الأب أو الزوج أو القريب"، وأن عملها في الإسلام عينيّ أيضا؛ أي تقع منها العبادة بناء على نيتها الذاتية ويحسب لها كسبها الشخصي في الدين، فيتعين على عملها ثواب أو عقاب لا شفاعة فيه؛ فوحدة الحساب هي للفرد سواء رجل أو امراة، وليس بين الزوجين اتحاد لازم في المعيار الأخرويّ، فلا يضام مؤمن باعتبار الذكورة أو الأنوثة.
كما يرى الترابيّ أنّ اتحاد الشريعة وعموم الخطاب الإسلاميّ هما أصل الرؤية الإسلامية للمرأة؛ فالنساء شقائق الرجال ولا يتميزنّ عنهم بشريعة خاصة إلا أحكاما فرعية محدودة. وفيما يتعلق بمشاركة المرأة في الحياة العامة، التي تندرج أحكامها شرعا تحت بند "الأعمال الكفائية" يقول الترابيّ: "إنّ على المرأة تكليفها الكفائيّ الذي يحرس الكيان العام للدين، ولها أن تتصدى للوفاء بواجباته، وعليها الوزر إذا عطله سائر المسلمين؛ فإن كان الله قد كفاها في بعض الشؤون العامة كالنفقة على الأسرة والنفير، فلها أن تشارك إذا رغبت هي في ذلكـ، وليس لأحد أن بسد في وجهها أبواب العمل الصالح".
"إنّ الحياة المسلمة حياة موجهة إلى الله؛ ولئن أبيح فيها اتصال الرجال بالنساء فإن ذلك ابتلاء، ينبغي للمسلم أن يتخذه مجالا للعبادة، وأقل التقدير أن يأخذه بوجهه المباح المشروع دون أن تخرج عن الأخلاقيّ المنضبط".
كما يجد الترابي أن السلطان الشرعيّ الوحيد الذي أعطي للرجل على المرأة هو في الحياة الزوجية، وهي علاقة تنشأ وتنحل برضى المرأة وتقوم في الأساس على رضى المرأة، وليس للرجل إلا قوامة الإنفاق والتأديب بالمعروف، أما سلطان الوالدين فهو سواء على الأبناء والبنات.
اقرأ أيضًا: مكانة المرأة المسلمة في المجتمع: في البدء كانت امرأة
وفيما بات يُعرف فقهيا بالاختلاط، يلفت أنه لا عزل بين النساء والرجال في التأصيل الإسلاميّ؛ فالمرأة تستقبل الضيوف ومن ذلك ضيف ابراهيم المكرمين، ومن النساء من كان يزورهن الرسول ويأكل ويصلي في بيوتهنّ مثل أم أيمن كما تذكر سيرة ابن هشام، ويضيف: "إنّ الحياة المسلمة حياة موجهة إلى الله؛ ولئن أبيح فيها اتصال الرجال بالنساء فإن ذلك ابتلاء، ينبغي للمسلم أن يتخذه مجالا للعبادة، وأقل التقدير أن يأخذه بوجهه المباح المشروع دون أن تخرج عن الأخلاقيّ المنضبط".
"تشريع" العُرف في النظرة للمرأة
إن تضييع هدي الإسلام في المرأة هو جزء من تضييع كثير من تعاليم الإسلام من وجهة نظر الترابي، "فما ضعف إيمان الرجال إلا وجاروا في النساء واستضعفوهن"، فمعظم أحكام القرآن جاءت حدودا موضوعة على الرجال تمنعهم من الاعتداء الذي قليلا ما خوطبت به المرأة، فقد جاءت آيات الطلاق والعدة والإيلاء كلها تضع حدا لتقاليد كانت تظلم المرأة وتعلقها تعليقا متطاولا، وردت آيات الميراث إليها حقها الذي كان منكورا، ونددت آيات بالتشاؤم بالمرأة والمولودة ووأدها.
كما أن ظلم التقاليد الوضعية على حد قول الترابي، ليس حكرا على المجتمعات العربية؛ بل هو مما عمت به البلوى في المجتمعات التي تستبد فيها أهواء الذكور كالمجتمع الفارسي والهندي، ولما كان الإسلام قد انتشر في تلك المجتمعات في أول عهده، ولم تكن حركة التوعية بتعاليم الإسلام والتربية بحدوده وتقواه مواكبة لحركة التوسع التبشيري؛ فقد بقيت بعض تلك الأوهام والأوضاع الجاهلية عبر سيادة المظاهر الإسلامية العامة.
اقرأ أيضًا: نساء من الأندلس: إسلام وحضارة تحتضن المرأة
يتابع الترابيّ: "ترتب على ذلك أمر خطير هو أن المجتمع الجديد لمّا قبل بالإسلام من حيث المبدأ معيارا لتوجيه حياته، أخذ ينسب كثيرا من تلك الأوهام القديمة إلى الدين ليضفي عليها حجة شرعية وليستبقي نفوذها في نفوس الناس، وقد تأثرت الأحكام الفقهية لتكييف الشريعة بما يتناسب مع الأعراف القديمة منها إطلاق النصوص المقيدة والمخصوصة، والتوسع في تفسير الأحكام المتعلقة بمظهر المرأة، بينما يقع التخصيص والحصر في حكم يثبت لها حقا أو حصانة في وجه الرجل، وأوسع تلك الحجج الفقهية استغلال باب سد الذرائع لفرض قيود مفرطة بحجة خشية الفتنة وبتقديرات مفرطة من الحيطة والتحفظ ".
الترابي: الثورة على الأوضاع النسوية "التقليدية" آتية لا محالة
وفقا للترابيّ؛ فإن النهوض بواقع المرأة قد أصبح أمرا حتميا، فإنّ هذه التقاليد والأعراف لن تستطيع الصمود في ظل تحديات العصر، والمتمثلة بالغزو الفكريّ الذي اجتاح العالم الإسلاميّ من تلقاء الغرب؛ فقد أدى هذا الانفتاح إلى زعزعت ثقة مجتمعاتنا بتصوراتها الموروثة إسلامية كانت أم جاهلية.
كما كانت قضايا المرأة العربية هي أكثر القضايا تأثرا من هذا الانفتاح الذي شكّل "فتنة للنساء المقهورات " حسب وصف الترابيّ، مما يجعل من مسألة النهوض بالمرأة أمرا ضروريا لابد أن يتولى زمامه المسلمون، يقول: "إنّ الثورة على الأوضاع النسوية التقليدية آتية لا محالة، ولئن كان للإسلاميين داع من دينهم لإصلاح القديم ولطيّ البعد القائم بين مقتضى الدين الأمثل في شأن المرأة وواقع المسلمين الحاضر، وتفاقم الاتجاهات التغريبية الحديثة، وليحذر من أن يوقعهم الفزع من الغزو الحضاري الغربي والتفسخ الجنسي في خطأ المحاولة لحفظ القديم وترميمه؛ باعتباره أخف شررا وضررا ".
الحياة المثلى بتكامل الذكر والأنثى
لا قائمة لحياة مثلى دون تحرير المرأة من الظلم الواقع عليها حسب الترابي؛ من خلال تحقيق حياة متكاملة بين الجنسين بالشكل الذي لا يتجاهل التكوين الفطريّ لكل منها؛ والذي قد يوجه مسار حياته بطريقة أو بأخرى. فالمرأة في أوساط عمرها تنشغل بوظائف طبيعية من الحمل والإنجاب؛ مما يمكن الرجال عموما من أن يرجحوا على النساء قوة وغنى، وقد يؤدي ذلك إلى استعلاء الرجل على المرأة لتنشأ أعراف تجعل من هذا الترجيح أمرا مقدسا يورث ويتصلب كتقاليد عصية على التغيير.
اقرأ أيضًا: بنت الشاطىء: كيف كسرت المرأة احتكار الرجال لعلوم القرآن؟
ويبينّ ذلك قائلا: "إنّ أطوار الحياة الحُسنى للأنثى والذكر هي سواء- الإيمان والتدبر في الطبيعة والشريعة، ثم التعبير الصادق عن ذلك بالصلاح قولا وعملا، ليستقبلا حسن المصير والجزاء في الآخرة...، إنّ أحسن علاقات الحياة أن تكون منظومة فعّالة تتزاوج وتتكامل فيها كسوب النساء والرجال ووقائع الحقوق والواجبات".
هذه التقاليد التي يستعلي فيها الذكر على الأنثى لا يمكن أن تؤسس مثالا للحياة؛ ولئن كانت قائمة على طبيعة فطرية تقتضي أحكاما شرعية خاصة؛ فخلف ذلك التمايز الجزئي تباح سائر وظائف الحياة المشتركة، وإن تراجحت أولويات التكليف. كانت هذه قراءة في كتاب المرأة بين الأصول والتقاليد للترابي، وهي إذ تعتمد نهج المراجعة والنقد فستظل بحاجة إلى استكشاف جديدة ورؤى عميقة في فكر العلامة وما كتب.
المراجع: