بنفسج

مي زيادة: تحولات الفكر والاعتناق

السبت 18 مارس

مقتطفات من حياة مي زيادة
مقتطفات من حياة مي زيادة

أبدأ من النّهاية، وبـ مقتطفات من حياة مي زيادة، عندما أسلمت مي زيادة الرّوح في مصر عام 1941، وطويت حياة كاتبة تفرّدت في الكتابة في فترة سياسية انتقالية بامتياز، أدركت عهود الإحلال والإبدال، وتصارع الشّرق والغرب، وتّقليد ”الحداثة” والموروث، والسيّر مع التّيار وعكسه. 

ظهرت بداية القرن العشرين، واعتلت أوج الأقلام والأعلام، وسطع نجمها في الصّحف الأوروبية والعربية الأكثر شهرة؛ كالأهرام، والمقتطف، والرّسالة، والهلال. ناهيك عن جاذبية صالونها الثّقافي الذي وصله مثقّفو الأمّة الأعلام، إلى فترة أفولها الغامضة، ودخولها كآبة ممعنة، وهي التي كانت عنواناً للأمل، والتحدّي، والتّغيير في عشرينيات القرن الماضي. لقد كتبت في الأدب والسياسة، وانخرطت في هموم المجتمع المصري والعربي، كما كتبت في افتتاحية جريدة الأهرام لفترة من الزّمن، وتولت تحرير القسم النسوي الاجتماعي، في جريدة السياسة الأسبوعية التي كان محمد حسنين هيكل رئيس تحريرها آنذاك.

ويذكر أنها رفضت تسلم صحيفة نسائية بحتة، ويدل ذلك على عدم رغبتها الاقتصار على مخاطبة شريحة النّساء فقط، بل كانت تؤمن بأهمية التواصل مع القرّاء من مختلف الشّرائح،  وإذا بدأنا بـمقتطفات من حياة مي زيادة؛ فهي الأديبة والكاتبة الفلسطينية البارزة خلال القرن الماضي.  ولدت مي زيادة في 11 شباط/ فبراير 1886 في مدينة الناصرة لأب لبناني وأم فلسطينية. والدها المعلم الياس الذي ترقّى في سلك التعليم وعيّن مديراً لمدرسة "الأرض المقدسة" في الناصرة. ووالدتها نزهة معمّر. 

تلقت ماري زيادة دروسها الابتدائية في مدينة الناصرة، وتعلمت الموسيقى واللغتين الفرنسية والإيطالية عند الراهبات اليوسفيات. وعندما بلغت الثالثة عشرة من العمر، توجهت إلى لبنان في صيف سنة 1899 بصحبة والديها للتعرف إلى أفراد عائلة أبيها، حيث تقرر أن تتابع دراستها عند راهبات الزيارة في فرع مدرسة "عينطورة" في كسروان. وفي تلك المدرسة، تفتحت شاعريتها وتبلورت موهبتها الأدبية، وتفوقت في الدراسة على أترابها، إلاّ إن مشاعر الكآبة وحب الانزواء انتابتها، ودرجت على كتابة يومياتها باللغة الفرنسية بعد ان انتحلت لنفسها اسم "عائدة".

كما كتبت في تلك المدرسة أولى قصائدها بعد أن تعرّفت إلى أشعار الرومانطيقيين الفرنسيين، مثل لامارتين وألفرد دو موسيه. بعد تخرجها من مدرسة "عينطورة"، قضت ماري زيادة سنة دراسية أخيرة في مدرسة الراهبات اللعازاريات في بيروت، ومنها عادت إلى الناصرة مجدداً في مطلع سنة 1905. في منتصف سنة 1907، قرر والد ماري ترك مدينة الناصرة والانتقال إلى القاهرة، فكان لهذا الانتقال أثر كبير في تبلور شخصيتها، وظهور نبوغها، وتبنيها رسالة رواد النهضة الذين دعوا إلى التحرر من الجهل والجمود دينياً واجتماعياً وأدبياً وسياسياً.

عملت ماري زيادة في القاهرة في تدريس اللغة الفرنسية في بعض المدارس الصغيرة، وصارت تعطي دروساً خصوصية بالفرنسية لبنات الثري المصري "إدريس راغب" الثلاث، الذي اشترى امتياز جريدة "المحروسة" ومطبعتها من صاحبها "عزيز زند" في سنة 1904، وتنازل عنها لصديقه الياس زيادة في أواخر سنة 1908، فصدرت "المحروسة" في مستهل سنة 1909 باسم: "صاحبها ورئيس تحريرها الياس زيادة"، وهو ما سمح لابنته ماري بولوج ميدان الصحافة والحياة الأدبية. وتحوّلت بالتعبير من اللغة الفرنسية إلى العربية لمواكبة النهضة الحديثة، وتبنت اسم "مي" بدلاً من اسمها الأصلي ماري. وكانت مي قد نشرت في القاهرة في سنة 1911 ديوان شعر باللغة الفرنسية تحت عنوان "أزهار حلم" (Fleurs de Rêve)، وقعته باسم "إيزيس كوبيا".

 تنافرٌ فكريّ

مقتطفات من حياة مي زيادة

الكاتبة مي زيادة ظهرت بداية القرن العشرين، واعتلت أوج الأقلام والأعلام، وسطع نجمها في الصّحف الأوروبية والعربية الأكثر شهرة؛ كالأهرام، والمقتطف، والرّسالة، والهلال. ناهيك عن جاذبية صالونها الثّقافي الذي وصله مثقّفو الأمّة الأعلام، إلى فترة أفولها الغامضة، ودخولها كآبة ممعنة، وهي التي كانت عنواناً للأمل، والتحدّي، والتّغيير في عشرينيات القرن الماضي.

لقد كتبت في الأدب والسياسة، وانخرطت في هموم المجتمع المصري والعربي، كما كتبت في افتتاحية جريدة الأهرام لفترة من الزّمن، وتولت تحرير القسم النسوي الاجتماعي، في جريدة السياسة الأسبوعية التي كان محمد حسنين هيكل رئيس تحريرها آنذاك. 

في فترة ما بعد الاستقلال الشكلي لمصر عام 1922، وظهور الخلافات السياسية بعد بروز ظاهرة  الأحزاب، اضطرت مي زيادة الانخراط في الحديث السياسي بعد أن كانت ترفضه، ولا تتدخل فيه، مقتصرةً على الأدب، فحذت حذو زملائها من الكتاب والمثقفين في ضرورة الحديث والتأثير في الرأي العام.

لقد عاشت زيادة أزمة التنافر الفكري، والتي كانت تعرض على المنابر الثقافية اليومية، وشهدت صراعات ”الأحرار” و”المحافظين” تحديداً، بعد تأزّم الخلافات بينهم، فور صدور كتاب ”الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرّازق عام 1925، مقابل كتاب طه حسين "الشّعر الجاهلي” والذي عكس الحرب الفكرية على ”الملحدين والمرتدّين”.

وكانت مي قريبة جداً من هذه الخلافات، ومن حيثياتها؛ كونها كانت تعمل في "السياسة الأسبوعية”، التي حاول رئيس تحريرها محمد حسنين هيكل، تخصيص جزء كبير من كتاباته الصحفية، للدّفاع عن زملائه "الملحدين”. ونظراً لرفضها الوقوف إلى كلا الطرفين: ”الالحاد”، و”التشدد الديني الإسلامي”، وهي بالأصل مسيحية الديانة، فإنّها عاشت فترة من القلق النّفسي، الأمر الذي يعزى له، تخليها عن التحرير في ”السياسة الأسبوعية”، وتوجهها لــ ”الأهرام” باعتبارها حيادية .


اقرأ أيضًا: في سير وتراجم النساء: بعض ما أوردته حضارتنا "1"


واجتهدت مي في الكتابة بشكل مكثف في الأهرام، وعلى صفحاتها الرّئيسة، خاصة بعد موت والدها 1929 والذي كان يدير مجلة ”المحروسة”. ويذكر أنّ اتفاقاً عقد بينها وبين إدارة الأهرام، كان جزء منه إنسانيا، والآخر تجاريا ماديا؛ اقتضى بأن تتسلم الأهرام ”المحروسة” مقابل أن تكتب مي بشكل يومي في الأهرام.

وقد لوحظ أن مقالات مي كانت تنشر في كلتا الجريدتين بنفس الوقت، لقد أثارت هذه الفرضية الجدل حول قيمة مي زيادة ككاتبة متفردة تنشر بالصفحة الأولى للأهرام، عندما ترتبط هذه المهمة بصفقة مادية بحتة، توفر لها ولوالدتها سبل العيش بعد موت والدها، والكرامة باستمرار ”المحروسة” التي تعود لعائلتها، وأهمية أن تبقى تعمل وتنشر المقالات في تلك الفترة.

 مقتطفات من حياة مي زيادة: قلمٌ وطنيّ رصين

مقتطفات من حياة مي زيادة

لقد كانت مي زيادة تكتب في عمق السياسة، حتى مع اختيارها عناوين مثل: ”على هامش السياسة” و”أحاديث غير سياسية”، أو ”في معزل عن السياسة والتحزب”، إلا أنّ هذه المقالات كانت تعكس رسالة سياسة واضحة ومباشرة.

 لقد كانت من بين المعترضين على انتهاك حقوق مصر الشرعية بنظام القضاء المختلط، وعلى إدخال نظام التعليم الإجباري لمصر.

لقد كانت مي زيادة تكتب في عمق السياسة، حتى مع اختيارها عناوين مثل: ”على هامش السياسة” و”أحاديث غير سياسية”، أو ”في معزل عن السياسة والتحزب”، إلا أنّ هذه المقالات كانت تعكس رسالة سياسة واضحة ومباشرة. لقد كانت من بين المعترضين على انتهاك حقوق مصر الشرعية بنظام القضاء المختلط، وعلى إدخال نظام التعليم الإجباري لمصر، ومن المطالبين بإعمار المدن، والاهتمام بالصحة، ومنع الرقابة على الأقلام.

لقد كان الجدل حول ”مفهوم الوطن” من بين أكثر ما اهتمت به مي زيادة، لقد كتبت  تساؤلاً في إحدى افتتاحيات الاهرام بعد تشكل الإخوان المسلمين، ونداء الحركة الجليّ بضرورة ربط الدين بالوطن والعكس صحيح : ”ما هو الوطن؟"

ولأنها حملت جزءاً من هذه الهموم الوطنية، تعرضت للنقد اللاذع من قبل شخصيات معروفة، مثل رئيس تحرير مجلة ”التربية الحديثة” الصادرة عن كلية التربية في الجامعة الامريكية بالقاهرة الذي عيّرها بالرجعية، واتهمها البعض بأنّ أفكارها تبدلت، ولم تعد صالحة لدى الشباب الليبرالي، ومن تغنى بالحضارة الغربية، حتى أنها هوجمت من بعض رائدات الحركة النسائية .


اقرأ أيضًا: بنت الشاطىء: كيف كسرت المرأة احتكار الرجال لعلوم القرآن؟


لقد تحولت مي زيادة عن الأفكار التي تنادي بضرورة تتبع الحضارة الغربية، والتي تركز على مبادئ الحرية والمساواة، تماماً كما تأثر جزء كبير من روّاد صالونها الثّقافي، بعد استفحال الاستعمار البريطاني والفرنسي، في التدخل في شؤون مصر والدول العربية، وتحولوا إلى التمسك بأفكار الدين الإسلامي، وبروح الحضارة الشرقية، أمثال هيكل وعبد القادر المازني، ومنصور فهمي والعقاد.

مقتطفات من حياة مي زيادة
لقد تحولت مي زيادة عن الأفكار التي تنادي بضرورة تتبع الحضارة الغربية، والتي تركز على مبادئ الحرية والمساواة، تماماً كما تأثر جزء كبير من روّاد صالونها الثّقافي.
 
وذلك بعد استفحال الاستعمار البريطاني والفرنسي، في التدخل في شؤون مصر والدول العربية، وتحولوا إلى التمسك بأفكار الدين الإسلامي، وبروح الحضارة الشرقية.

إنّ التحولات في السياقات الأيديولوجية أواخر العشرينات والثلاثينيات، أصابت مي زيادة في صميم عقلها، وأدخلتها في حيرة شديدة، مع ذلك فإنها لم تتخلى عن فكرة التعايش السلمي بين الأديان، وتقبل الآخر، وحرية الرأي، والحوار الحر بين الثقافات داخل المجتمع الواحد. لقد كان الجدل حول ”مفهوم الوطن” من بين أكثر ما اهتمت به مي زيادة، لقد كتبت  تساؤلاً في إحدى افتتاحيات الاهرام بعد تشكل الإخوان المسلمين، ونداء الحركة الجليّ بضرورة ربط الدين بالوطن والعكس صحيح : ”ما هو الوطن؟"

ثمّ أجابت بعد ذلك بقولها: ”الدين أيها السادة والسيدات، لا أختاره أنا ولا تختارونه أنتم. إننا نولد في دين من الأديان. كما يولد الواحد منا أسمر أو أشقر. طويل القامة أو قصيرها". وحذرت من الدخول في صراعات طائفية، وركزت على التسامح الديني، ونادت برفع قيمة التراث، ورفض تقليد الثقافة الغربية. لقد كان لها مساهمات ذات أهمية في تقريب الاتجاهات الاجتماعية الفكرية والثقافية.

 انكفاء

مقتطفات من حياة مي زيادة
الأديبة مي زيادة في منزلها

بلا شك، أصيبت مي زيادة بخيبات متتالية تتعلق بأفكارها التي كما تقول أصبحت ”تقلق” القراء كل صباح، وكانت تستخدم أسلوبها الساخر في الرد على المعترضين عليها. لقد شعرت مي بأنّها تحارب في مجتمعها،  وأنّ جزءاً من جهدها الفكري، خاصة فيما يتعلق بالحريات والمبادئ، أصبح بلا قيمة! لقد ولدت مي في الشام، لكنها أخدت الجنسية المصرية، وكانت تعتبر نفسها مصرية، وكانت دوماً تفتخر بعروبتها وانتمائها لثقافة المجتمع، ويبدو أنّ تغييرها لاسمها من ماري إلى مي، مرتبطٌ بهذه الرّغبة.


اقرأ أيضًا: مريمة وأم سعد وشهرزاد: أعمال أدبية أنصفت المرأة


في عام 1935م، ظهرت عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ وهي بنت 25 عاما كمنافس قوي لــ مي زيادة، وتكتب وتنشر على الصفحة الرئيسة للأهرام مثلها تماماً، ولمع نجمها بشكل كبير، وبقيت تكتب فيها لأكثر من ستة عقود، وأصبحت من أبرز نساء مصر في مجال الأدب العربي، وقد اهتمت الأهرام على ما يبدو ببنت الشاطئ أكثر، وعلى حساب مي لاحقاً. وأثر هذا على قلمها، وتراجعت في فترة متأخرة من الثلاثينيات، إلى أن أطبق عليها الصمت فجأة!

لا بد أن يقف كل أديب ومفكر بالضرورة عند مقتطفات من حياة مي زيادة وفكرها وأدبها وفلسفتها بالحياة، بعد مرور عقود على رحيلها، ليشيد بها، ويذكر بها الأجيال الجديدة، ويبحث في فكرها عميقا. ويظهر ما نُسي من كتاباتها أو يبحث عمّا فُقد منها ولم ينشر، ويفهم في غموض نهايتها المأساوية؛ حيث قيل إنها أصيب بالجنون وفقدت عقلها الكبير، وسجلت بذلك انطفاء شمعة قبل أوانها، ودفنت معها أسرار كثيرة لا زالت تطرح التساؤلات التي يراها العقلاء غير كافية وغير منصفة، لامرأة قوية ومثقفة ومتميزة تماماً كما هي مي زيادة.


المصادر:

 [1]  (قراءة في كتاب ” كتابات منسية ” حول مي زيادة ، تحقيق أنتيا زيغلر 2005)