بنفسج

الخطابان السلفي والنسوي: حين يلتقي الفرقاء على " أشكلة" المرأة

الثلاثاء 23 يونيو

في مشهدين هما طرفا نقيض يختلفان في كل التفاصيل، بينما يجتمعان على أمر واحد هو أشكلة المرأة؛ أي توصيفها كإشكالية تتعدد طرائق حلها والنظر إليه. في المشهد الأول؛ يتصدر الشاشة شيخ ذو لحية كثة، يصرخ بلا هوادة، أن النساء هن سبب البلاء والابتلاء، وهن الفتنة الكبرى، وأن على الرجل آلا يقع في شراك إحداهن فتكون بوابته إلى جهنم، وأنّ عليه أيضًا أن يكف فتنة النساء الخاضعات لقوامته عن المجتمع وشباب المسلمين، فالرجل لن يكون رجلًا إلا إذا وقرت نساؤه في عقر ديارهن.

وتتصدر المشهد الثاني؛ سيدة لم تترك صيحة من صيحات الثياب والحلي وهندام الشعر إلا واتبعتها، وما علمت من جديد في درب من دروب الزينة إلا وكانت سباقة في اللحاق بركابه. تجلس السيدة نافخة أوداجها في حشد نسائي مهيب تلقي بالاتهامات جزافًا هنا وهناكترى أن المجتمع برمته -وبتحريض إسلامي صريح ربما- قد تآمر على طمس هوية المرأة وسلب حقوقها، مطالبة بتحرير المرأة دون أي تفسير أو طرح لحدود هذه الحرية التي تطالب بها.

تريد للمرأة اتباع ما تمليه عليها المجتمعات الغربية الحديثة دون توضيح لحدود ما تمليه عليها هذه المجتمعات، لا تتوقف عن الجعجعة، مطالبة النساء بكسر كل الحدود واختراق كل الآفاق. بين هذا المشهد وذاك يبقى السؤال قائمًا؛ ما الذي يريده الإسلام من المرأة؟ وما الذي تطالبها به الخطابات النسوية؟

 | المرأة في نظر الإسلام

تكمن المغالطة الفقهية والمنهجية هنا في جعل وظيفة عفة المجتمع المسلم ملقاة على عاتق المرأة وحدها، دون أن تكون وظيفة مجتمعية يقوم عليها الرجل والمرأة على السواء.

فإن فرض على المرأة الحجاب، فقد فرض على الرجل غض البصر، لتكون مساحة حريتها مقيدة بمساحة حريته سواء بسواء. المرأة في نظر الإسلام إنسان في المقام الأول، دون أن ينكر أنوثتها أو يتجاهلها أو يقلل من شأنها.

يكثر الخطاب الديني من الاستشهاد بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، دون أن يسبر ذلك الخطاب غور مفهوم الفتنة، بتتبع ماهيته في الكتاب والسنة. يُعزز مفهوم الفتنة في الخطاب الديني المعاصر، ببعض الأحكام الفقهية التي خصت بها الشريعة النساء دون الرجال، مستندين في هذا تحديدًا على مبدأ سد الذرائع الذي استحدثه الفقه الإسلامي لاحقًا، والذي يقوم على تشريع أحكام احترازية لتقي المجتمع من الوقوع في الفتنة، تختص هذه الأحكام عادة بالمرأة ولا تمس الرجل، بل ويصلون في هذا إلى التضييق عليها، وربما حرمانها من بعض حقوقها التي أقرتها لها الشريعة، ومارستها في عهد الرسالة الأول.

تكمن المغالطة الفقهية والمنهجية هنا في جعل وظيفة عفة المجتمع المسلم ملقاة على عاتق المرأة وحدها، دون أن تكون وظيفة مجتمعية يقوم عليها الرجل والمرأة على السواء؛ فإن فرض على المرأة الحجاب، فقد فرض على الرجل غض البصر، لتكون مساحة حريتها مقيدة بمساحة حريته سواء بسواء.

وبالرجوع إلى مصادر التشريع الأولى، نلحظ كيف اتسمت آيات العفة بخطابها الشمولي دون تركيز على جنس دون آخر، وإن اختصت المرأة ببعض التفاصيل الفقهية كضرب الخمار، وعدم إظهار الزينة إلا ما ظهر منها. أما المنظومة الأخلاقية فلم يشرعها الإسلام على النساء دون الرجال؛ فالمسلم لا يكذب ولا يسرق ولا يكون بذيء اللسان رجلًا كان أم امرأة.

وتجسد هذه المساواة اعتراف الإسلام وإقراره بإنسانية المرأة في ظل أنظمة إنسانية كانت لا تعترف بإنسانيتها ولا تراها سوى خادمًة للرجل. ولما كان الإسلام قائمًا على الحياة الاجتماعية برمتها، تعنيه مصالح الرجل كما تعنيه مصالح المرأة، لم يجعل علاقتهما علاقة تناحرية أو تنافسية، ولم يجعل لجنس فضل على الآخر.

وبمنظور أكثر اتساعًا، فقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في التكليف والتدين والعبادة، فيقرن بين المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات، في الأجر والثواب، وفي الدور المجتمعي التفاعلي يذكر سبحانه: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله"

وتجسد هذه المساواة اعتراف الإسلام وإقراره بإنسانية المرأة في ظل أنظمة إنسانية كانت لا تعترف بإنسانيتها ولا تراها سوى خادمًة للرجل. ولما كان الإسلام قائمًا على الحياة الاجتماعية برمتها، تعنيه مصالح الرجل كما تعنيه مصالح المرأة، لم يجعل علاقتهما علاقة تناحرية أو تنافسية، ولم يجعل لجنس فضل على الآخر، فلا يكون الرجل مميزًا لأنه خلق رجلًا، بل كان مناط التمييز والاختلاف هو مناط المسؤولية، في ظل علاقة تكاملية بين الرجل والمرأة.

فالمرأة في نظر الإسلام إنسان في المقام الأول، دون أن ينكر أنوثتها أو يتجاهلها أو يقلل من شأنها، ولا ينظر إلى الأنوثة كفتنة أيضًا، بل أباحت لها هذه الأنوثة مثلًا؛ التنعم بالحرير والذهب، وهو محرم عن الرجال، وحفظ لها الإسلام طبيعتها الأنثوية ولم يجبرها بمحاكاة الرجال في الزي أو الهيئة.

 | الخطاب النسوي: بين التحرير والتمركز حول الأنثى

الحركات النسوية تختلف عن حركات تحرير المرأة القديمة، في أن الأخيرة كانت تؤمن بمركزية الإنسان في الكون وبالإنسانية المشتركة، فتسعى هذه الحركات للدفاع عن حقوق المرأة داخل حدود المجتمع، أو بقول آخر، تطالب هذه الحركات بتحرر المرأة مع المحافظة على وحدة وتماسك المجتمع الكلي، وتهدف إلى تحقيق قدر من العدالة الحقيقية.

لكن حركات التحرر الجديدة هذه تماهت مع تطورات الحضارة الغربية المتمثلة في إعادة صياغة الإنسان في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية، وتسليع الإنسان وتشييئه، فأهملت القيم الإنسانية على حساب القيم المادية.

يلفت المسيري الأنظار إلى خطورة مفهوم الأقليات الذي يروج له النظام العالمي الجديد، إذ أنه وبتقسيم الإنسانية إلى جماعات تشكل كل منهم أقلية، فإن هذا سيؤدي إلى الإخلال بفكرة وجود أكثرية أو أغلبية، ويمهد لظهور حالة من السيولة المفاهيمية تنهار بها المعايير والثوابت الإنسانية، وتسود الفوضى المعرفية والأخلاقية؛ فتحويل المجتمعات إلى مجموعات من الأقليات لكل منها حقوق مطلقة لا تستند لأي إطار مشترك ولا يمكن التعايش معها.

وبإسقاط هذه الرؤية على الجماعات النسوية، يرى المسيري إن الحركات النسوية تختلف عن حركات تحرير المرأة القديمة، في أن الأخيرة كانت تؤمن بمركزية الإنسان في الكون وبالإنسانية المشتركة، فتسعى هذه الحركات للدفاع عن حقوق المرأة داخل حدود المجتمع، أو بقول آخر، تطالب هذه الحركات بتحرر المرأة مع المحافظة على وحدة وتماسك المجتمع الكلي، وتهدف إلى تحقيق قدر من العدالة الحقيقية.

لكن حركات التحرر الجديدة هذه تماهت مع تطورات الحضارة الغربية المتمثلة في إعادة صياغة الإنسان في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية، وتسليع الإنسان وتشييئه، فأهملت القيم الإنسانية على حساب القيم المادية، فمثلًا؛ الاهتمام بدور المرأة العاملة مع إهمال دور الأم والاهتمام بالإنتاجية على حساب القيم الأخلاقية والاجتماعية الأساسية مثل تماسك الأسرة.

ويرى المسيري أن نتيجة هذه الدعاوى، انقسام العالم إلى رجال متمركزين تمامًا حول ذكورتهم، ونساء متمركزات تمامًا حول أنوثتهن، ويعيش الطرفان حالة صراع دائمة مع الآخر، ثم تنحل هذه الحالة لتصبح حالة سائلة لا تعرف فارقًا بين ذكر وأنثى. ويقول المسيري: "فالمرأة متمركزة حول ذاتها تشير إلى ذاتها، مكتفية بذاتها تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته وكأنها الشعب في مواجهة الأغيار".

ختامًا، ورغم اختلاف مشهديّ المقدمة، إلا أنهما يتفقان في محاولة قولبة المرأة وفقًا لرؤيته الخاصة، بعيدًا عن الرؤية الإنسانية القويمة التي أقرتها الشريعة الغراء. فالخطاب الديني خالطته بعض المغالطات والّتبس فيه الحق بالباطل، والخطابات النسوية بالغت في التطرف وحوّلت الحياة الإنسانية إلى حلبة صراع بين الرجل والمرأة. ولا أجد سبيلًا للنجاة إلا استعادة الوعي الإنساني الفطري وإعادة دور المسجد المحوري، والسعي لحرية تبني ولا تهدم أو تشوّه الفطرة التي فطر الله الناس عليها.