يكتسب سفر جاد الجديد أهمية عالية؛ ليس فقط لمتانة إطاره النظري وريادته في إضاءة زوايا معتمة في تاريخ الحركة النسوية/ النسائية الفلسطينية، وجرأته في التعرض للمسكوت عنه داخلها، بل لأنَّه من الإصدارات النادرة التي قدَّمت صك اعترافٍ، ولو متأخرًا، بالحركة النسائية الإسلامية كإحدى أهم مكونات التجربة النسوية/ النسائية الفلسطينية ما بعد أوسلو.
وجاد، من النسويات المعروفات بامتلاكهنَّ تجربةً عمليةً غنيةً داخل الأطر النسوية الفلسطينية، وأكاديمية مارست مبكِّرًا البحث والتدريس والتأليف في الشأن الفلسطيني النسوي، وواحدة من رموز التقارب بين النساء الإسلاميات والعلمانيات الوطنيات. أمَّا الكتاب، فنسخة ملخصة ومنقحة لفصلين من أطروحة نالت بموجبها المؤلفة درجة الدكتوراه من كلية العلوم الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، عن رسالة علمية تتناول التجربة النسوية الفلسطينية ما بعد أوسلو (1994- 2004).
| الإطار التاريخي للحركة النسوية الفلسطينية
دخلت الحركات النسوية محطتها الثانية مع ظهور منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تجدد النقاش حول دور المرأة الفلسطينية ومكانتها وحقوقها. عارضت حركة فتح منح الأولوية لأي مطالبة حقوقية نسوية خارج أطار التحرير الوطني، أمّا المنظمات اليسارية فبدت أكثر التصاقًا بالقضايا النسوية، لكنَّها نادت بإعطاء قضايا التحرر الوطني والطبقي الأولوية.
شكلت سبعينيات القرن الماضي العصر الذهبي للنشاط النسوي العلماني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد اتصفت هذه المرحلة بالتشابك بين الأهداف الوطنية المتمثلة في التحرر من الإحتلال والسعي الحثيث لتحرير المرأة وتمكينها داخل المجتمع.
| فلسطين ما بعد أوسلو ... أفول نجم النسوية الفلسطينية العلمانية
أمَّا الثاني؛ فتمثَّل في تعاظم الدور الفلسطيني الرسمي في صياغة المشهد النسوي، فتراجع دور "الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وكذلك التنظيمات والأطر الجماهيرية بشكل عام، وما كان منها تابعًا لفتح بشكل خاص"(66).
| صعود النسوية الإسلامية الفلسطينية
يسلط الفصل الثالث الضوء على بروز دور إسلاميات فلسطين، وارتباط ذلك بظهور حركة حماس. تعطي الكاتبة مساحة للحديث عن بروز حركة حماس، ويلفت النظر تبنيها، دون تحفُظ، لمقولات بعض المستشرقين الصهاينة (إيهود يعاري، زئيف شيف وغيرهما ...) حول تأسيس الحركة وعوامل صعودها، في تجاوز غير مقبول للقواعد الرصينة التي حكمت مقولات الكتاب الرئيسة وما ورد في الكتاب من تفاصيل حولها.
ترجع الكاتبة ازدياد اهتمام الإسلاميين بالمرأة إلى عدة عوامل، يأتي على رأسها انتقالهم إلى مربع المواجهة مع الإحتلال، وحدة التنافس مع نظرائهم من العلمانيين، وحاجتهم إلى أدوار نسائية في المجال العام، والدور الذي لعبته الإسلاميات داخل الحركة الإسلامية، وتراجع دور النسوية العلمانية داخل المجتمع الفلسطيني.
وتتبع مراحل تطور دور الإسلاميات الفلسطينيات، فتولي اهتمامًا أكبر للتجربة النسائية في قطاع غزة، باعتبارها أكثر غنًا وفاعلية من أختها في الضفة. فتشير بدايةً للدور الذي لعبه المجمع الإسلامي ومركز تأهيل المرأة المسلمة في بث التوعية في صفوف النساء، عبر نشر الثقافة الإسلامية والحث على الالتزام بالزي الإسلامي.
وترجع بداية اهتمام الإسلاميين بالمرأة في الجامعات إلى أهمية الصوت النسائي في إطار المنافسة الشديدة مع التيار العلماني.
وتتطرق إلى ساحات العمل الطلابي، فتعزو بداية اهتمام الإسلاميين بالمرأة في الجامعات إلى أهمية الصوت النسائي في إطار المنافسة الشديدة مع التيار العلماني. لكنَّ هذه القراءة لا يمكن أن تفسر بمفردها تلازم انخراط المرأة المسلمة في العمل الطلابي مع بداية انطلاق الكتل الإسلامية، ولا تصمد أمام تبني الكتل الإسلامية منذ بواكير نشاطها سياسات منحت المرأة هامشًا معتبرًا للانخراط في العمل الطلابي.
كان تمثيل المرأة في قائمة الكتل الإسلامية في أكثر من دورة انتخابية جليًا منذ النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، ونورد هنا على سبيل المثال لا الحصر، ترشيح الطالبة منى مقبل عن اللجنة الاجتماعية في انتخابات 1984 في جامعة بيرزيت.
| الحركة النسائية الإسلامية في قطاع غزة... النشأة والتطور
تقدم الكاتبة مقاربة إيجابية لتجربة الإسلاميات في قطاع غزة. وتعتقد بأنَّ حزب الخلاص قد فتح المجال لتمكين المرأة وتعزيز انخراطها في الحيز العام، عبر دمجها في أجهزته السياسية بشكل كامل، ومنحها الفرصة في المشاركة الواسعة في صنع القرارات، ورسم السياسات، وتنفيذ النشاطات. الأمر الذي أفضى إلى تبني خطاب نسائي إسلامي معاصر بلغة حقوقية ووعي بمقتضيات التنمية في فلسطين ومعوقاتها.
وتثني على مواقف القيادة السياسية لحركة حماس فيما يخص المرأة، حيث رأتها أكثر تقدمية من القيادة الرسمية لمنظمة التحرير، بإقدامها على خطوات اعتبرتها "سابقة في تاريخ الحركة النسائية الفلسطينية" (138). وتؤرخ الكاتبة لميلاد "الحركة النسائية الإسلامية في فلسطين"، حين أعلن عن قيامها في المؤتمر النسائي الخامس للمرأة المسلمة المنعقد في العام 2002م، حيث اعتبرت إطارًا جامعًا تتحد داخله ثماني مؤسسات نسائية هي: " اتحاد النساء المسلمات، دائرة العمل النسائي في حزب الخلاص، دائرة العمل النسائي في المجمع الإسلامي، الكتلة الإسلامية(الطالبات)، مجلس طالبات الجامعة الإسلامية، جمعية الأمهات الفلسطينيات، جمعية العناية العائلية، الوحدة النسائية في المؤسسة العربية للدراسات والبحوث، جمعية أمهات الشهداء".
| أيديولوجية النوع الاجتماعي" الجندر" لدى حماس
بمراجعتها لتطور نظرة حركة حماس للنوع الاجتماعي "الجندر"، تزيل الكاتبة العديد من الأساطير المنتشرة في الأدبيات المتعلقة بدراسة موقف حركة حماس من المرأة. فتشير إلى أنَّ الحركة لا تملك موقفًا أيديولوجيًا ثابتًا تجاه المرأة. وأنَّها غالبًا ما تتأثر بعوامل ليس لها علاقة بالنص الديني، كنضوج تجربتها، وارتفاع شعبيتها، وحدة التنافس مع التيارات العلمانية، والصراع مع الاحتلال.
وتنتقد الكاتبة من يرى في سلوك حركة حماس وتاريخها ما يدل على نظرة حديدية للمرأة لا تقبل التغيير، وترى على سبيل المثال بأنَّ تعاملها مع النساء، قد اتسم ببعده عن العنف، فكانت أقل التنظيمات استخدامًا للعنف لثني النساء عن السقوط الأخلاقي، بعكس حركة فتح التي كانت أكثر التنظيمات ممارسةً للعنف الجسدي ضد النساء المشتبه بسلوكهن الأخلاقي أو الأمني.
تشير الكاتبة إلى أنَّ الحركة قد قدمت في عام 1997م رؤية متكاملة للنوع الاجتماعي نشرتها دائرة العمل النسائي في حزب الخلاص، وكانت عبارة عن ملخصٍ ليومٍ دراسيٍ بعنوان "المرأة الفلسطينية... إلى أين؟". وقد عبَّر الملخَّص عن بعض مواقف الحركة مثل محاولة نزع الشرعية عن المجموعات النسوية العلمانية بربطها بالغرب، ورفض المواثيق الدولية الخاصة بحقوق المرأة مع الدعوة لدراستها، وتقديم رؤية أكثر جرأة وتقدمًا، تتعلق بالنظرة إلى الاختلاط، وتعدد الزوجات، وممارسة حق الطلاق ضمن أحكام الشريعة، ورفض السلطوية الذكورية داخل العائلة، وتعميم فقه الشورى في السلوك الاجتماعي.
أمَّا المؤتمرات التي عقدت بين العامين 1999-2000 فقد بدت- برأي الكاتبة- " أكثر ثقة وأقل دفاعية، بالإضافة إلى موقف أكثر عقلانية بالنسبة للاتفاقيات الدولية" (166). كما أنَّها انتقلت من مربع نزع الشرعية عن النسويات العلمانيات إلى مربع" المناوشة والاشتباك". وأصبحت تسير "على نهج مساواة النوع الاجتماعي الجندر، وليس فقط التكامل بين الرجل والمرأة وإلى تمثل قيم تعلي المساواة الاجتماعية" (168).
وحسب الكاتبة، فإنَّ الخطاب النسائي الإسلامي يشكل اليوم تحديًا كبيرًا للخطاب النسوي القائم على مبدأ الحقوق الفردية، والذي بات منكشفًا بعد أن تمكن الإسلاميون "عبر غرس الإسلام في جوهر تكوين الوطنية الفلسطينية المعدلة من أن ينزعوا الشرعية عن خطاب النسويات بإظهارهن كمغتربات وغير وطنيات"( 171). كما أنَّه يشكل تحديًا "للعلمانية الفلسطينية المتناقضة" التي تبناها التيار الرسمي في منظمة التحرير. وأخيرًا، يشكل تحديًا للمنظمات النسوية غير الحكومية المفتقرة للقاعدة المنظمة.